نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}}

 نداء الحق لامة الاسلام {{فاعتبروا يا أولي الأبصار}

Translate

الجمعة، 17 مارس 2023

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار {من موسوعة التاريخ}

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة التحقيق:

لا نعرف عن بدايات التأليف في تاريخ مكة -وخاصة المؤلفات التي أفاد منها اللاحقون- سوى مؤلف في تاريخ مكة للحسن بن يسار البصري المتوفى سنة 110هـ، الذي كتب رسالة عن "فضائل مكة المشرفة" كانت فيما بعد أحد المصادر الرئيسية لمؤرخي مكة.

ومؤلف آخر في تاريخ مكة لعثمان بن ساج المتوفى سنة 180هـ، ويرجح أن كتابه في تاريخ مكة كان أحد مصادر الأزرقي المتوفى نحو 250هـ، في كتابه الذي نقدم له اليوم.

ثم جاء الوليد الأزرقي فكتب في "أخبار مكة" وقد استقى كثيرًا من معلوماته الواردة في كتابه عن عبد الله بن عباس وتلاميذه، حيث كان لديهم معلومات وفيرة عن مكة.

ويبدو أن الأزرقي كان مولعًا بمعرفة الأخبار التاريخية وروايتها، كما أن اسمه يظهر كمصدر للمعلومات عن تاريخ مكة القديم، وكذلك فيما يتعلق بتاريخها الإسلامي وما صاحبه من أحداث.

وقد استغرق ثلاثة أرباع كتابه ذكر قصص كانت قد نمت في الجاهلية حول حرم مكة, ووصف الشعائر ذات الصلة بمكة.

أما الربع الباقي فيبحث في الأماكن المقدسة الأخرى من مكة, بالإضافة إلى الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعاصريه من المكيين، وعن خطط مكة وأطرافها.

 

 

ج / 1 ص -4- وقد حظيت مرويات الأزرقي باهتمامات المؤرخين اللاحقين في العهود التي تلته.

هذا, وقد استندت في تحقيق كتاب أخبار مكة إلى ما يلي:

1- مخطوطة مصورة من معهد المخطوطات بالقاهرة برقم 2186 تاريخ عن النسخة الروسية رقم 607 B، وهي نسخة نفيسة كتبت بقلم نسخ قديم فيه ضبط، من القرن الخامس الهجري تقديرًا، وبأولها قراءة هذا الكتاب لأبي الوليد الباجي بخطه على شيخه أبي الحجاج يوسف بن فتوح، وإجازة من الشيخ الباجي بجميع مصنفاته ومروياته وبجميع ما يجوز له روايته من منقول ومسموع بشرطه، وبآخرها مقابلتان: الأولى مقابلة على أصل مصنفه وقرئ عليه مرات، والثانية قوبلت على نسخة صحيحة مكتتبة من نسخة المؤلف تجاه الكعبة عام 633هـ، وقد جعلت هذه النسخة أصلًا.

2- النسخة التي طبعت في أوروبا بعناية وستنفيلد 1858م، وقد رمزت إليها بالحرف "أ".

3- نسخة بتحقيق رشدي الصالح ملحس, وقد رمزت إليها بالحرف "ب".

وقد أشرت إليها جميعًا في تعليقاتي بـ"الأصول".

وكان حرصي على سلامة النص أكثر من حرصي على التعريف بالأعلام والبلاد, والإسراف في الشرح والتعليق؛ إذ كان ذلك أهم ما يحتاج إليه العلماء والباحثون عند الرجوع إلى الكتب المحققة.

كما قمت في آخر الكتاب بعمل الفهارس المتنوعة التي تقرب نفعه، وتدني جناه.

القاهرة في رجب سنة 1424هـ

سبتمبر سنة 2003م

د. علي عمر 

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

ج / 1 ص -9- بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلم كثيرا

ذكر ما كانت الكعبة الشريفة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض, وما جاء في ذلك:

أخبرني والدي الفقيه الإمام المحدث صدر الدين بقية المشايخ أبو حفص عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشي الميانشي رحمة الله عليه، قال: حدثنا القاضي الإمام أبو المظفر محمد بن علي بن الحسين الشيباني الطبري، عن جده الشيخ الإمام الحسين وعن الشيخ أبي الحسن علي بن خلف الشامي, عن أبي القاسم خلف بن هبة الله الشامي، عن أبي محمد الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس, عن أبي الحسن محمد بن نافع الخزاعي, عن أبي محمد إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي, عن أبي الوليد محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني الأزرقي قال: حدثنا جدي أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن بشر بن عاصم عن سعيد بن المسيب قال: قال كعب الأحبار: كانت الكعبة غُثاء على الماء قبل أن يخلق الله -عز وجل- السموات والأرض بأربعين سنة, ومنها دُحيت الأرض.

قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا أبو أيوب البصري, عن هشام عن حميد قال: سمعت مجاهدًا يقول: خلق الله -عز وجل- هذا البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرضين.

قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي عن سعيد بن سالم، عن-ج / 1 ص -10- طلحة بن عمرو, عن عطاء, عن ابن عباس أنه قال: لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض بعث الله تعالى ريحًا هَفَّافة فصَفَقَت الماء فأبرزت عن حَشْقة في موضع البيت كأنها قبة, فدحا الله الأرضين من تحتها فمادت, ثم مادت فأوتدها الله تعالى بالجبال, فكان أول جبل وضع فيها أبو قُبَيْس؛ فلذلك سميت مكة أم القرى1.

قال: وحدثني يحيى بن سعيد عن محمد بن عمر بن إبراهيم الجبيري, عن عثمان بن عبد الرحمن, عن هشام, عن مجاهد قال: لقد خلق الله -عز وجل- موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرض بألفي سنة, وان قواعده لفي الأرض السابعة السفلى.

 ــــــــــــــــ

1 الحديث في الجامع الصغير 1/ 112 ورمز لضعفه.

ذكر بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم, ومبتدأ الطواف كيف كان:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثني علي بن هارون بن مسلم العجلي, عن أبيه قال: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن الأنصاري قال: حدثني محمد بن علي بن الحسين قال: كنت مع أبي علي بن الحسين بمكة فبينما هو يطوف بالبيت وأنا وراءه, إذ جاءه رجل شَرْجَع من الرجال يقول: طويل فوضع يده على ظهر أبي, فالتفت أبي إليه فقال الرجل: السلام عليك يابن بنت رسول الله, إني أريد أن أسألك فسكت أبي وأنا والرجل خلفه, حتى فرغ من أسبوعه فدخل الحجر فقام تحت الميزاب فقمت أنا والرجل خلفه ليصلي ركعتي أسبوعه, ثم استوى قاعدًا فالتفت إلي فقمت فجلست إلى جنبه فقال: يا محمد, فأين هذا السائل؟ فأومأت إلى الرجل فجاء فجلس بين يدي أبي فقال له أبي: عم تسأل؟ قال: أسألك عن بدء هذا الطواف==ج / 1 ص -11- بهذا البيت لم كان وأنى كان؟ وحيث كان وكيف كان؟ فقال له أبي: نعم من أين أنت؟ قال: من أهل الشام قال: أين مسكنك؟ قال: في بيت المقدس قال: فهل قرأت الكتابين, يعني: التوراة والإنجيل؟ قال الرجل: نعم قال أبي: يا أخا أهل الشام احفظ ولا تروين عني إلا حقا, أما بدء هذا الطواف بهذا البيت فإن الله تبارك وتعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فقالت الملائكة: أي رب أخليفة من غيرنا ممن يفسد فيها, ويسفك الدماء, ويتحاسدون, ويتباغضون, ويتباغون؟! أي رب اجعل ذلك الخليفة منا فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتباغض، ولا نتحاسد، ولا نتباغى، ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك، ونطيعك ولا نعصيك فقال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} قال: فظنت الملائكة أن ما قالوا رد على ربهم عز وجل, وأنه قد غضب من قولهم فلاذوا بالعرش، ورفعوا رءوسهم، وأشاروا بالأصابع يتضرعون، ويبكون إشفاقًا لغضبه وطافوا بالعرش ثلاث ساعات فنظر الله إليهم فنزلت الرحمة عليهم, فوضع الله تعالى تحت العرش بيتًا على أربع أساطين من زبرجد وغشاهن بياقوتة حمراء, وسمي ذلك البيت الضُّرَاح1.

ثم قال الله تعالى للملائكة: "طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش" قال: فطافت الملائكة بالبيت وتركوا العرش وصار أهون عليهم وهو البيت المعمور الذي ذكره الله عز وجل يدخله في كل يوم وليلة سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدًا.

ثم إن الله -سبحانه وتعالى- بعث ملائكة فقال لهم: "ابنوا لي بيتًا في الأرض بمثاله وقدره" فأمر الله سبحانه من في الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، فقال الرجل: صدقت يابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا كان.

  ـــــــــــــــــ

1 لدى ياقوت: الضراح: بيت في السماء حيال الكعبة وهو البيت المعمور، وقيل: هو الكعبة رفعها الله وقت الطوفان إلى السماء الدنيا, فسميت بذلك لضرحها عن الأرض أي: بعدها.=ج / 1 ص -12- ذكر زيارة الملائكة البيت الحرام:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا عمر بن بكار, عن وهب بن منبه، عن ابن عباس, أن جبريل -عليه السلام- وقف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه عصابة حمراء قد علاها الغبار فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الغبار أرى على عصابتك أيها الروح الأمين؟" قال: إني زرت البيت فازدحمت الملائكة على الركن, فهذا الغبار الذي ترى مما تثير بأجنحتها.

وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني عثمان بن يسار قال: بلغني -والله أعلم- أن الله تعالى إذا أراد أن يبعث ملكًا من الملائكة لبعض أموره في الأرض, استأذنه ذلك الملك في الطواف بالبيت, فهبط الملك مُهِلّا1.

وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج عن وهب بن منبه نحو هذا إلا أنه قال: ويصلي في البيت ركعتين.

وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج، قال: أخبرني عباد بن كثير2، عن ليث بن معاذ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هذا البيت خامس خمسة عشر بيتًا، سبعة منها في السماء إلى العرش, وسبعة منها إلى تخوم الأرض السفلى, وأعلاها الذي يلي العرش البيت المعمور, لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت, لو سقط منها بيت لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السفلى, ولكل بيت من أهل السماء ومن أهل الأرض من

  ـــــــــــــــ

1 فيه عثمان بن ساج. ولدى صاحب التقريب: "عثمان بن ساج، فيه ضعف".

2 إسناده ضعيف، عباد بن كثير هو: البصري، نزيل مكة، متروك. قال أحمد: روى أحاديث كذب "التقريب".= ج / 1 ص -13- يعمره كما يعمر هذا البيت".

حدثني أبو الوليد، قال: وحدثني جدي عن سعيد بن سالم، عن عثمان, عن وهب بن منبه، أن ابن عباس أخبره أن جبريل وقف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه عصابة خضراء قد علاها الغبار فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الغبار الذي أرى على عصابتك أيها الروح الأمين؟" قال: إني زرت البيت فازدحمت الملائكة على الركن, فهذا الغبار الذي ترى مما تثير بأجنحتها.

ذكر هبوط آدم إلى الأرض, وبنائه الكعبة، وحجه، وطوافه بالبيت:

حدثنا أبو الوليد, حدثنا جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض من الجنة، كان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض وهو مثل الفلك من رعدته, قال: فطأطأ الله عز وجل منه إلى ستين ذراعا، فقال: يا رب ما لي لا أسمع أصوات الملائكة ولا أحسهم؟ قال: "خطيئتك يا آدم, ولكن اذهب فابن لي بيتًا فطف به واذكرني حوله, كنحو ما رأيتَ الملائكة تصنع حول عرشي" قال: فأقبل آدم عليه السلام يتخطى فطويت له الأرض وقبضت له المفاوز, فصارت كل مفازة يمر بها خطوة وقبض له ما كان من مخاض ماء, أو بحر فجعل له خطوة.

ولم تقع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة, حتى انتهى إلى مكة فبنى البيت الحرام, وإن جبريل -عليه السلام- ضرب بجناحه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السفلى, فقذفت فيه الملائكة الصخر, ما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلًا.=ج / 1 ص -14- وإنه بناه من خمسة أجبل من لبنان، وطور زَيْتا، وطور سينا, والجودي، وحراء حتى استوى على وجه الأرض.

قال ابن عباس: فكان أول من أسس البيت وصلى فيه وطاف به آدم -عليه السلام- حتى بعث الله الطوفان قال: وكان غضبًا ورجسًا قال: فحيثما انتهى الطوفان ذهب ريح آدم -عليه السلام- قال: ولم يقرب الطوفان أرض السند والهند.

قال: فدَرَس موضع البيت في الطوفان, حتى بعث الله تعالى إبراهيم وإسماعيل, فرفعا قواعده وأعلامه وبنته قريش بعد ذلك, وهو بحذاء البيت المعمور, لو سقط ما سقط إلا عليه1.

حدثنا أبو الوليد، حدثنا مهدي بن أبي المهدي، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني, عن عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه أن الله تعالى لما تاب على آدم -عليه السلام- أمره أن يسير إلى مكة, فطوى له الأرض وقبض له المفاوز, فصار كل مفازة يمر بها خطوة, وقبض له ما كان فيها من مخاض ماء أو بحر, فجعله له خطوة، فلم يضع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمرانًا وبركة, حتى انتهى إلى مكة.

وكان قبل ذلك قد اشتد بكاؤه وحزنه لما كان فيه من عظم المصيبة, حتى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه ولتبكي لبكائه, فعزاه الله تعالى بخيمة من خيام الجنة, ووضعها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة.

وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة, فيها ثلاثة قناديل من ذهب من تبر الجنة، فيها نور يلتهب من نور الجنة، ونزل معها الركن وهو يومئذ ياقوتة بيضاء من ربض الجنة, وكان كرسيا لآدم -عليه السلام- يجلس عليه، فلما صار آدم بمكة وحرس له تلك الخيمة بالملائكة, كانوا يحرسونها ويذودون عنها ساكن الأرض.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 في إسناده: طلحة بن عمرو الحضرمي. قال فيه صاحب التقريب: "متروك".

 

 

ج / 1 ص -15- وساكنها يومئذ الجن والشياطين, فلا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء من الجنة؛ لأنه من نظر إلى شيء من الجنة وجبت له، والأرض يومئذ طاهرة نقية لم تنجس، ولم تسفك فيها الدماء، ولم يعمل فيها بالخطايا؛ فلذلك جعلها الله مسكن الملائكة, وجعلهم فيها كما كانوا في السماء يسبحون الله الليل, والنهار لا يفترون.

وكان وقوفهم على أعلام الحرم صفًّا واحدًا مستديرين بالحرم الشريف كله، الحل من خلفهم والحرم كله من أمامهم فلا يجوزهم جن ولا شيطان, ومن أجل مقام الملائكة حُرم الحرم حتى اليوم، ووضعت أعلامه حيث كان مقام الملائكة, وحرم الله -عز وجل- على حواء دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم -عليه السلام- من أجل خطيئتها التي أخطأت في الجنة, فلم تنظر إلى شيء من ذلك حتى قبضت.

وإن آدم -عليه السلام- كان إذا أراد لقاءها ليلم بها للولد, خرج من الحرم كله حتى يلقاها, فلم تزل خيمة آدم -عليه السلام- مكانها حتى قبض الله آدم, ورفعها الله تعالى.

وبنى بنو آدم بها من بعدها مكانها بيتًا بالطين والحجارة, فلم يزل معمورًا يعمره من بعدهم حتى كان زمن نوح عليه السلام فنسفه الغرق وخفي مكانه.

فلما بعث الله تعالى إبراهيم خليله -عليه السلام- طلب الاساس, فلما وصل إليه ظلل الله تعالى له مكان البيت بغمامة, فكانت حفاف البيت الأول, ثم لم تزل راكدة على حفافه تظل إبراهيم وتهديه مكان القواعد حتى رفع الله القواعد قامة.

ثم انكشفت الغمامة, فذلك قول الله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] أي: الغمامة التي ركدت على الحفاف لتهديه مكان القواعد, فلم يزل بحمد الله منذ رفعه الله معمورًا.

قال وهب بن منبه: وقرأت في كتاب من الكتب الأولى ذكر فيه أمر

 

 

ج / 1 ص -16- الكعبة فوجد فيه أن ليس من ملك من الملائكة بعثه الله تعالى إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت, فينقض من عند العرش محرمًا ملبيًا حتى يستلم الحجر, ثم يطوف سبعًا بالبيت ويركع في جوفه ركعتين ثم يصعد.

وحدثني محمد بن يحيى, عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن عبد الله بن لبيد قال: بلغني أن ابن عباس قال: لما أهبط الله سبحانه آدم -عليه السلام- إلى الأرض أهبطه إلى موضع البيت الحرام وهو مثل الفلك من رعدته, ثم أنزل عليه الحجر الأسود -يعني الركن- وهو يتلألأ من شدة بياضه, فأخذه آدم -عليه السلام- فضمه إليه أنسًا به ثم نزلت عليه العصا, فقيل له: تخط يا آدم فتخطى فإذا هو بأرض الهند والسند, فمكث بذلك ما شاء الله ثم استوحش إلى الركن, فقيل له: احجج قال: فحج فلقيته الملائكة فقالوا: بر حجك يا آدم, لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام1.

وحدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: بلغني أن آدم -عليه السلام- لما أهبط إلى الأرض حزن على ما فاته مما كان يرى ويسمع في الجنة من عبادة الله عز وجل, فبوأ الله له البيت الحرام وأمره بالسير إليه, فسار إليه لا ينزل منزلًا إلا فجر الله له ماء معينا, حتى انتهى إلى مكة فأقام بها يعبد الله عند ذلك البيت ويطوف به, فلم تزل داره حتى قبضه الله بها2.

حدثني جدي، قال: حدثني سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, قال: بلغني أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لكعب: يا كعب, أخبرني عن البيت الحرام قال كعب: أنزله الله تعالى من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم -عليه السلام- فقال له: "يا آدم, إن هذا بيتي أنزلته معك يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى حوله كما يصلى حول عرشي" ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 في إسناده: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال صاحب التقريب: "متروك".

2 في إسناده: عثمان بن ساج، فيه ضعف.

 

 

ج / 1 ص -17- حجارة، ثم وضع البيت عليه فكان آدم -عليه السلام- يطوف حوله كما يطاف حول العرش، ويصلي عنده كما يصلى عند العرش, فلما أغرق الله قوم نوح رفعه الله إلى السماء, وبقيت قواعده1.

حدثني جدي, قال: وحدثني إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن أبان بن أبي عياش قال: بلغنا عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سأل كعبًا, ثم نسق مثل الحديث الأول.

وحدثني جدي, قال: وحدثني إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود, عن ابن عباس -رضوان الله عليه- قال: كان آدم -عليه السلام- أول من أسس البيت, وصلى فيه حتى بعث الله الطوفان2.

حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر عن أبان أن البيت أهبط ياقوتة لآدم -عليه السلام- أو درة واحدة.

وحدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم القداح, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه قال: كان البيت الذي بوأه الله تعالى لآدم عليه السلام يومئذ ياقوتة من يواقيت الجنة حمراء تلتهب، لها بابان أحدهما شرقي والآخر غربي, وكان فيه قناديل من نور آنيتها ذهب من تبر الجنة وهو منظوم بنجوم من ياقوت أبيض، والركن يومئذ نجم من نجومه, وهو يومئذ ياقوتة بيضاء3.

حدثنا جدي، قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثنا المغيرة بن زياد, عن عطاء بن أبي رباح قال: لما بنى ابن الزبير الكعبة أمر العمال أن يبلغوا في الأرض, فبلغوا صخرًا أمثال الإبل الخلف قال: فقالوا: إنا قد بلغنا صخرًا معمولًا أمثال الإبل الخلف قال: قال: زيدوا فاحفروا، فلما

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 في إسناده: عثمان بن ساج، سبق التعليق عليه.

2 فيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، سبق التعليق عليه.

3 فيه عثمان بن ساج، سبق التعليق عليه.

 

 

ج / 1 ص -18- زادوا بلغوا هواء من نار يلقاهم فقال: ما لكم؟ قالوا: لسنا نستطيع أن نزيد، رأينا أمرًا عظيمًا فلا نستطيع. فقال لهم: ابنوا عليه، قال: فسمعت عطاء يقول: يرون أن ذلك الصخر مما بنى آدم عليه السلام.

وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن ابن عباس, خر آدم ساجدًا يبكي فهتف به هاتف فقال: "ما يبكيك يا آدم؟" قال: أبكاني أنه حيل بيني وبين تسبيح ملائكتك وتقديس قدسك، فقيل له: "يا آدم، قم إلى البيت الحرام" فخرج إلى مكة فكان حيث يضع قدميه يفجر عيونًا، وعمرانًا، ومدائن وما بين قدميه الخراب والمعاطش, فبلغني أن آدم -عليه السلام- تذكر الجنة فبكى، فلو عدل بكاء الخلق ببكاء آدم حين أخرج من الجنة ما عدله, ولو عدل بكاء الخلق وبكاء آدم عليه السلام ببكاء داود حين أصاب الخطيئة ما عدله.

حدثني جدي قال: أخبرنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه أن آدم عليه السلام اشتد بكاؤه وحزنه لما كان من عظم المصيبة حتى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه، ولتبكي لبكائه قال: فعزاه الله بخيمة من خيام الجنة وضعها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة, وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة وفيها ثلاثة قناديل من ذهب من تبر الجنة، فيها نور يلتهب من نور الجنة، فلما صار آدم عليه السلام إلى مكة وحرس له تلك الخيمة بالملائكة, فكانوا يحرسونه ويذودون عنها سكان الأرض، وسكانها يومئذ الجن والشياطين، ولا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء من الجنة؛ لأنه من نظر إلى شيء منها وجبت له، والأرض يومئذ نقية طاهرة طيبة لم تنجس ولم تسفك فيها الدماء، ولم يعمل فيها بالخطايا؛ فلذلك جعلها الله يومئذ مستقر الملائكة وجعلهم فيها كما كانوا في السماء يسبحون الليل والنهار لا يفترون، قال: فلم تزل تلك الخيمة مكانها حتى قبض الله آدم -عليه السلام- ثم رفعها إليه.

 

 

ج / 1 ص -19- حدثني مهدي بن أبي المهدي، عن عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر عن قتادة في قوله عز وجل {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] قال: وضع الله تعالى البيت مع آدم -عليه السلام- فأهبط الله تعالى آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، وكانت الملائكة تهابه فقبض إلى ستين ذراعًا فحزن آدم عليه السلام إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم, فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال الله تعالى: "يا آدم, إني أهبطت معك بيتًا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي" فانطلق إليه فخرج آدم -عليه السلام- ومد له في خطوه فكان خطوتان أو بين خطوتين مفازة, فلم يزل على ذلك، فأتى آدم عليه السلام البيت فطاف به، ومن بعده من الأنبياء.

حدثني محمد بن يحيى عن عبد العزيز بن عمران, عن عمر بن أبي معروف, عن عبد الله بن أبي زياد أنه قال: لما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام من الجنة قال: "يا آدم, ابن لي بيتًا بحذاء بيتي الذي في السماء, تتعبد فيه أنت وولدك كما تتعبد ملائكتي حول عرشي" فهبطت عليه الملائكة فحفر حتى بلغ الأرض السابعة, فقذفت الملائكة الصخر حتى أشرف على وجه الأرض, وهبط آدم عليه السلام بياقوتة حمراء مجوفة لها أربعة أركان بيض, فوضعها على الأساس فلم تزل الياقوتة كذلك حتى كان زمن الغرق, فرفعها الله سبحانه1.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 فيه عبد العزيز بن عمران، متروك. احترقت كتبه فحدث من حفظه, فاشتد غلطه "التقريب".

 

 

ج / 1 ص -20- ما جاء في حج آدم -عليه السلام- ودعائه لذريته:

حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال: حُدثت أن آدم عليه السلام خرج حتى قدم مكة فبنى البيت، فلما فرغ من بنائه قال: أي رب, إن لكل أجير أجرًا وإن لي أجرًا، قال: "نعم، فاسألني" قال: أي رب, تردني من حيث أخرجتني، قال: "نعم ذلك لك" قال: أي رب, ومن خرج إلى هذا البيت من ذريتي يقر على نفسه بمثل الذي قررت به من ذنوبي أن تغفر له قال: "نعم ذلك لك"1.

حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا محمد بن يحيى, عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن أبي المليح أنه قال: كان أبو هريرة يقول: حج آدم -عليه السلام- فقضى المناسك فلما حج قال: يا رب إن لكل عامل أجرًا قال الله تعالى: "أما أنت يا آدم فقد غفرت لك, وأما ذريتك فمن جاء منهم هذا البيت فباء بذنبه غفرت له".

فحج آدم -عليه السلام- فاستقبلته الملائكة بالرحمة فقالت: بر حجك يا آدم, قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، قال: فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله، والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر قال: فكان آدم عليه السلام إذا طاف بالبيت يقول هؤلاء الكلمات, وكان طواف آدم عليه السلام سبعة أسابيع بالليل, وخمسة أسابيع بالنهار.

قال نافع: كان ابن عمر -رحمه الله- يفعل ذلك.

حدثني محمد بن يحيى قال: حدثني هشام بن سليمان المخزومي, عن عبد الله بن أبي سليمان مولى بني مخزوم أنه قال: طاف آدم عليه السلام سبعًا بالبيت حين نزل، ثم صلى وجاه باب الكعبة ركعتين، ثم أتى الملتزم فقال: اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي, وتعلم ما في نفسي وما عندي فاغفر لي ذنوبي, وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي ويقينًا صادقًا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي, والرضا بما قضيت علي.

قال: فأوحى الله تعالى إليه: "يا آدم, قد دعوتني بدعوات فاستجبت لك، ولن يدعوني بها أحد من ولدك إلا كشفت غمومه وهمومه, وكففت عليه ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغناء بين عينيه، وتجرت له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها". قال: فمذ طاف آدم -عليه السلام- كانت سنة الطواف.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 فيه عثمان بن ساج، سبق التعليق عليه.

 

 

ج / 1 ص -21- "سنة الطواف":

حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج، قال: حدثني موسى بن عبيد, عن محمد بن المنكدر قال: كان أول شيء عمله آدم -عليه السلام- حين أهبط من السماء, طاف بالبيت فلقيته الملائكة فقالوا: بر نسكك يا آدم, طفنا بهذا البيت قبلك بألفي سنة.

حدثني جدي, عن سفيان بن عيينة, عن الحرام بن أبي لبيد المدني قال: حج آدم -عليه السلام- فلقيته الملائكة فقالوا: يا آدم بر حجك, قد حججنا قبلك بألفي عام.

حدثني جدي عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, قال: أخبرني سعيد أن آدم عليه السلام حج على رجليه سبعين حجة ماشيًا، وأن الملائكة لقيته بالمأزمين فقالوا: بر حجك يا آدم, أما إنا قد حججنا قبلك بألفي عام.

حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن طلحة بن عمرو الحضرمي, عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: حج آدم عليه السلام وطاف بالبيت سبعًا, فلقيته الملائكة في الطواف فقالوا: بر حجك يا آدم, أما إنا قد حججنا قبلك هذا البيت بألفي عام, قال: فما كنتم تقولون في الطواف؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, قال آدم -عليه السلام: فزيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله قال: فزادت الملائكة فيها ذلك.

 

 

ج / 1 ص -22- قال: ثم حج إبراهيم -عليه السلام- بعد بنيانه البيت, فلقيته الملائكة في الطواف فسلموا عليه فقال لهم إبراهيم: ماذا كنتم تقولون في طوافكم؟ قالوا: كنا نقول قبل أبيك آدم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فأعلمناه ذلك فقال آدم -عليه السلام: زيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال إبراهيم: زيدوا فيها: العلي العظيم قال: ففعلت الملائكة ذلك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

ذكر وحشة آدم في الأرض حين نزلها, وفضل البيت الحرام والحرم:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج عن وهب بن منبه أنه قال: إن آدم -عليه السلام- لما هبط إلى الأرض استوحش فيها؛ لما رأى من سعتها ولم ير فيها أحدًا غيره فقال: يا رب, أما لأرضك هذه عامر, يسبحك فيها ويقدس لك غيري؟

قال: "إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي، وسأجعل فيها بيوتًا ترفع لذكري ويسبحني فيها خلقي، وسأبوئك فيها بيتًا أختاره لنفسي وأختصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي، فأسميه بيتي وأنطقه بعظمتي، وأجوزه بحرماتي، وأجعله أحق بيوت الأرض كلها وأولاها بذكري، وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض، وقبل ذلك قد كان بغيتي فهو صفوتي من البيوت, ولست أسكنه وليس ينبغي لي أن أسكن البيوت ولا ينبغي لها أن تسعني، ولكن على كرسي الكبرياء والجبروت وهو الذي استقل بعزتي، وعليه وضعت عظمتي وجلالي، وهنالك استقر قراري، ثم هو بعد ضعيف عني لولا قوتي, ثم أنا بعد ذلك ملء كل شيء، وفوق كل شيء، ومع كل شيء، ومحيط بكل شيء، وأمام كل شيء، وخلف كل شيء، ليس ينبغي لشيء أن

 

 

ج / 1 ص -23- يعلم علمي، ولا يقدر قدرتي، ولا يبلغ كنه شأني.

أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرمًا وأمنًا، أحرم بحرماته ما فوقه، وما تحته، وما حوله, فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرماتي، ومن أحله فقد أباح حرماتي، ومن أمن أهله فقد استوجب بذلك أماني، ومن أخافهم فقد أخفرني في ذمتي، ومن عظم شأنه عظم في عيني، ومن تهاون به صغر في عيني ولكل ملك حيازة ما حواليه، وبطن مكة خيرتي وحيازتي وجيران بيتي وعمارها وزوارها وفدي وأضيافي في كنفي وأفنيتي ضامنون علي في ذمتي وجواري, فأجعله أول بيت وضع للناس وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض يأتونه أفواجًا شعثًا غبرًا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق, يعجون بالتكبير عجيجًا ويرجون بالتلبية رجيجًا وينتحبون بالبكاء نحيبًا, فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زارني ووفد إلي ونزل بي, ومن نزل بي فحقيق علي أن أتحفه بكرامتي وحق الكريم أن يكرم وفده وأضيافه, وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته.

تعمره يا آدم ما كنت حيا, ثم تعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء, أمة بعد أمة, وقرن بعد قرن, ونبي بعد نبي, حتى ينتهي ذلك إلى نبي من ولدك وهو خاتم النبيين, فأجعله من عماره، وسكانه، وحماته، وولاته، وسقاته يكون أميني عليه ما كان حيا, فإذا انقلب إلي وجدني قد ذخرت له من أجره وفضيلته ما يتمكن به للقربة مني والوسيلة إلي, وأفضل المنازل في دار المقام.

وأجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وثناءه ومكرمته لنبي من ولدك يكون قبل هذا النبي وهو أبوه يقال له: إبراهيم أرفع له قواعده، وأقضي على يديه عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه حله وحرمه ومواقفه, وأعلمه مشاعره ومناسكه، وأجعله أمة واحدة قانتًا لي قائمًا بأمري داعيًا إلى سبيلي أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم، أبتليه فيصبر، وأعافيه فيشكر، وينذر لي فيفي، ويعدني فينجز، وأستجيب له في ولده وذريته من بعده, وأشفعه فيهم فأجعلهم

 

 

ج / 1 ص -24- أهل ذلك البيت، وولاته، وحماته، وخدامه، وسدانه, وخزانه، وحجابه حتى يبتدعوا ويغيروا.

فإذا فعلوا ذلك فأنا الله أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء، أجعل إبراهيم إمام أهل ذلك البيت، وأهل تلك الشريعة يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الإنس والجن, يطئون فيها آثاره، ويتبعون فيها سنته، ويقتدون فيها بهديه، فمن فعل ذلك منهم أوفى نذره واستكمل نسكه، ومن لم يفعل ذلك منهم ضيّع نسكه وأخطأ بغيته.

فمن سأل عني يومئذ في تلك المواطن: أين أنا؟ فأنا مع الشعث الغبر الموفين بنذورهم المستكملين مناسكهم المبتهلين إلى ربهم الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون.

وليس هذا الخلق ولا هذا الأمر الذي قصصت عليك شأنه يا آدم بزائد في ملكي، ولا عظمتي، ولا سلطاني، ولا شيء مما عندي إلا كما زادت قطرة من رشاش وقعت في سبعة أبحر1 تمدها من بعدها سبعة أبحر1 لا تحصى، بل القطرة أزيد في البحر من هذا الأمر في شيء مما عندي ولو لم أخلقه لم ينقص شيئًا من ملكي ولا عظمتي ولا مما عندي من الغناء والسعة إلا كما نقصت الأرض ذرة وقعت من جميع ترابها, وجبالها, وحصاها، ورمالها، وأشجارها, بل الذرة أنقص في الأرض من هذا الأمر لو لم أخلقه لشيء مما عندي, وبعد هذا من هذا مثلًا للعزيز الحكيم".

حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني قال: حدثني عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه بنحوه.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "سبغة البحر".

 

 

ج / 1 ص -25- ما جاء في البيت المعمور:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثني سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه قال: أخبرني أبو سعيد عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث حدث به قال: "سمي البيت المعمور؛ لأنه يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك, ثم ينزلون إذا أمسوا فيطوفون بالكعبة, ثم يسلمون على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ينصرفون فلا تنالهم النوبة حتى تقوم الساعة".

حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج عن وهب بن منبه أنه وجد في التوراة بيتًا في السماء بحيال الكعبة فوق قبتها, اسمه الضراح وهو البيت المعمور, يرده كل يوم سبعون ألف ملك, لا يعودون إليه أبدًا.

حدثني جدي, عن سعيد بن سالم قال: أخبرني ابن جريج, عن صفوان بن سليم, عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "البيت الذي في السماء يقال له: الضراح, وهو مثل بناء هذا البيت الحرام ولو سقط لسقط عليه, يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدًا".

وحدثني جدي عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن السائب الكلبي قال: بلغني -والله أعلم- أن بيتًا في السماء يقال له: الضراح بحيال الكعبة, يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الملائكة ما دخلوه قط قبلها.

حدثني جدي قال: حدثني سفيان بن عيينة, عن ابن أبي حسين, عن أبي الطفيل قال: سأل ابن الكواء عليًّا -رضي الله عنه: ما البيت المعمور؟ قال: هو الضراح, وهو حذاء هذا البيت, وهو في السماء السادسة يدخله كل يوم

 

 

ج / 1 ص -26- سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدًا.

حدثني أبو محمد قال: حدثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي قال: حدثنا سفيان بن عيينة بنحوه, إلا أنه قال: في السماء السابعة, وقال: لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.

حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني قال: حدثنا معمر, عن وهب بن عبد الله, عن أبي الطفيل قال: شهدت عليًّا -رضي الله عنه- وهو يخطب وهو يقول: سلوني, فوالله لا تسألونني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، وسلوني عن كتاب الله, فوالله ما منه آية إلا وأنا أعلم أنها1 بليل نزلت أم بنهار, أم بسهل نزلت أم بجبل.

فقام ابن الكواء وأنا بينه وبين علي -رضي الله عنه- وهو خلفي قال: أفرأيت البيت المعمور ما هو؟ قال: ذاك الضراح فوق سبع سموات تحت العرش, يدخله كل يوم سبعون ألف ملك, لا يعودون فيه إلى يوم القيامة.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في ب, وفي الأصل: "أنه" وفي أ: "أم".

ما جاء في رفع البيت المعمور زمن الغرق, وما جاء فيه:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن ابن جريج عن مجاهد قال: بلغني انه لما خلق الله -عز وجل- السموات والأرض كان أول شيء وضعه فيها البيت الحرام, وهو يومئذ ياقوتة حمراء جوفاء, لها بابان: أحدهما شرقي والآخر غربي, فجعله مستقبل البيت المعمور.

 

 

ج / 1 ص -27- فلما كان زمن الغرق رفع في ديباجتين فهو فيهما إلى يوم القيامة, واستودع الله -عز وجل- الركن أبا قبيس قال: وقال ابن عباس: كان ذهبًا فرفع زمان الغرق, وهو في السماء.

وقال ابن جريج: قال جويبر: كان بمكة البيت المعمور, فرفع زمان الغرق فهو في السماء.

حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني أبو سعيد عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث حدث به: "أن آدم عليه السلام قال: أي رب, إني أعرف شقوتي, إني لا أرى شيئًا من نورك يعبد, فأنزل الله عز وجل عليه البيت المعمور على عرض البيت في موضعه من ياقوتة حمراء, ولكن طوله كما بين السماء والأرض, وأمره أن يطوف به, فأذهب الله عنه الغم الذي كان يجده قبل ذلك, ثم رفع على عهد نوح عليه السلام".

ذكر بناء ولد آدم البيت الحرام بعد موت آدم عليه السلام:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه أنه قال: لما رفعت الخيمة التي عزّى الله بها آدم من حلية الجنة حين وضعت له بمكة في موضع البيت, ومات آدم عليه السلام, فبنى بنو آدم من بعده مكانها بيتًا بالطين والحجارة, فلم يزل معمورًا يعمرونه هم ومن بعدهم حتى كان زمن نوح عليه السلام, فنسفه الغرق وغير مكانه حتى بوئ لإبراهيم عليه السلام.

 

 

ج / 1 ص -28- ما جاء في طواف سفينة نوح -عليه السلام- زمن الغرق بالبيت الحرام:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا بشر بن السرى البصري, عن داود بن أبي الفرات الكندي, عن علباء بن أحمر اليشكري, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلًا معهم أهلوهم, وإنهم كانوا أقاموا في السفينة مائة وخمسين يومًا, وإن الله تعالى وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يومًا, ثم وجهها الله تعالى إلى الجودي فاستقرت عليه.

فبعث نوح -عليه السلام- الغراب ليأتيه بخبر الأرض, فذهب فوقع على الجيف وأبطأ عنه, فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين, فعرف نوح أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها: ثمانين.

فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها العربية, قال: فكان لا يفقه بعضهم عن بعض, وكان نوح عليه السلام يعبر1 عنهم.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "يغير".

 

 

ج / 1 ص -29- لا تعلوها السيول, غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت فيما هنالك, ولا يثبت موضعه.

وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض، ويدعو عنده المكروب, فقل من دعا هنالك إلا استجيب له.

وكان الناس يحجون إلى موضع البيت, حتى بوأ الله مكانه لابراهيم -عليه السلام- لما أراد من عمارة بيته وإظهار دينه وشرائعه, فلم يزل منذ أهبط الله آدم -عليه السلام- إلى الأرض معظمًا محرمًا بيته تتناسخه الأمم والملل, أمة بعد أمة وملة بعد ملة, قال: وقد كانت الملائكة تحجه قبل آدم عليه السلام.

ما ذكر من تخير إبراهيم -عليه السلام- موضع البيت الحرام من الأرض:

حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: بلغني -والله أعلم- أن إبراهيم خليل الله تعالى عرج به إلى السماء فنظر إلى الأرض مشارقها ومغاربها, فاختار موضع الكعبة فقالت له الملائكة: يا خليل الله, اخترت حرم الله تعالى في الأرض, قال: فبناه من حجارة سبعة أجبل قال: ويقولون: خمسة, وكانت الملائكة تأتي بالحجارة إلى إبراهيم من تلك الجبال.

 

 

ج / 1 ص -30- باب ما جاء في إسكان إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه هاجر في بدء أمره عند البيت الحرام كيف كان:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثني سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثنا ابن أبي نجيح, عن مجاهد أن الله تعالى لما بوأ لإبراهيم مكان البيت, خرج إليه من الشام وخرج معه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وإسماعيل طفل يرضع, وحُملوا فيما يحدثني على البراق.

قال عثمان بن ساج: وحدثنا عن الحسن البصري أنه كان يقول في صفة البراق عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه أتاني جبريل بدابة بين الحمار والبغل، لها جناحان في فخذيها تحفزانها, تضع حافرها في منتهى طرفها".

قال عثمان: قال محمد بن إسحاق: ومعه جبريل عليه السلام يدله على موضع البيت ومعالم الحرم قال: فخرج وخرج معه لا يمر إبراهيم بقرية من القرى إلا قال: يا جبريل أبهذه أمرت؟ فيقول له جبريل -عليه السلام: امضه, حتى قدم مكة وهي آنذاك عضاه من سلم وسمر وبها ناس يقال لهم: العماليق, خارجًا من مكة فيما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة. فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم! قال: فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشًا ثم قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37]. ثم انصرف إلى الشام وتركهما عند البيت الحرام.

وحدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج, عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي, عن سعيد بن جبير قال: حدثنا عبد الله بن عباس أنه حين كان بين أم إسماعيل بن إبراهيم وبين

 

 

ج / 1 ص -31- سارة امرأة إبراهيم ما كان, أقبل إبراهيم -عليه السلام- بأم إسماعيل وإسماعيل وهو صغير ترضعه, حتى قدم بهما مكة, ومع أم إسماعيل شنة فيها ماء تشرب منها وتدر على ابنها, وليس معها زاد. يقول سعيد بن جبير: قال ابن عباس: فعمد بهما إلى دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد -يشير لنا بين البئر وبين الصفة- يقول: فوضعهما تحتها، ثم توجه إبراهيم خارجًا على دابته واتبعت أم إسماعيل أثره حتى أوفى إبراهيم بكدا.

يقول ابن عباس: فقالت له أم إسماعيل: إلى من تتركها وابنها؟ قال: إلى الله عز وجل قالت: رضيت بالله.

فرجعت أم إسماعيل تحمل ابنها حتى قعدت تحت الدوحة فوضعت ابنها إلى جنبها, وعلقت شنتها تشرب منها وتدر على ابنها حتى فني ماء شنتها فانقطع درها, فجاع ابنها فاشتد جوعه حتى نظرت إليه أمه يتشحط قال: فحسبت أم إسماعيل أنه يموت فأحزنها.

يقول ابن عباس: قالت أم إسماعيل: لو تغيبت عنه حتى لا أرى موته، يقول ابن عباس: فعمدت أم إسماعيل إلى الصفا حين رأته مشرفًا تستوضح عليه -أي: ترى أحدًا بالوادي- ثم نظرت إلى المروة ثم قالت: لو مشيت بين هذين الجبلين تعللت, حتى يموت الصبي ولا أراه.

قال ابن عباس: فمشت بينهما أم إسماعيل ثلاث مرات أو أربعا, ولا تجيز بطن الوادي في ذلك إلا رملًا.

يقول ابن عباس: ثم رجعت أم إسماعيل إلى ابنها فوجدته ينشغ1 كما تركته فأحزنها, فعادت إلى الصفا تتعلل حتى يموت ولا تراه, فمشت بين الصفا والمروة كما مشت أول مرة.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لدى ابن الأثير في النهاية: "النشغ: الشهيق حتى يكاد يبلغ به الغشي. ومنه حديث أم إسماعيل: "فإذا الصبي ينشغ للموت" وقيل: معناه: يمتص بفيه.

 

 

ج / 1 ص -32- يقول ابن عباس: حتى كان مشيها بينهما سبع مرات، قال ابن عباس: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم: "فلذلك طاف الناس بين الصفا والمروة".

قال: فرجعت أم إسماعيل تطالع ابنها فوجدته كما تركته ينشغ, فسمعت صوتًا فراث1 عليها ولم يكن معها أحد غيرها, فقالت: قد أسمع صوتك فأغثني إن كان عندك خير.

قال: فخرج لها جبريل -عليه السلام- فاتبعته حتى ضرب برجله مكان البئر -يعني: زمزم- فظهر ماء فوق الأرض حيث فحص جبريل.

يقول ابن عباس: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم: "فحاضته أم إسماعيل بتراب ترده؛ خشية أن يفوتها قبل أن تأتي بشنتها, فاستقت وشربت ودرت على ابنها".

حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: بلغني أن ملكًا أتى هاجر أم إسماعيل حين أنزلها إبراهيم بمكة قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت, فأشار لها إلى البيت وهو ربوة حمراء مدرة فقال لها: هذا أول بيت وضع للناس في الأرض وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه للناس.

قال ابن جريج: وبلغني أن جبريل -عليه السلام- حين هزم2 بعقبه3 في موضع زمزم، قال لأم إسماعيل, وأشار لها إلى موضع البيت: هذا أول بيت وضع للناس، وهو بيت الله العتيق, واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه للناس ويعمرانه فلا يزال معمورًا محرمًا مكرمًا إلى يوم القيامة.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في الأصل، وهو الصواب. ولدى ابن الأثير في النهاية: "راث علينا خبر فلان يريث: إذا أبطأ" ومعه الحديث: "وعد جبريل -عليه السلام- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيه فراث عليه" ورواية أ: "قرأت" وفي ب: "آب".

2 لدى ابن الأثير في النهاية "هزم" وفيه: "إن زمزم هزمة جبريل" أي: ضربها برجله فنبع الماء.

3 تحرف في "أ، ب" إلى "بعقبة".

 

 

ج / 1 ص -33- قال ابن جريج: فماتت أم إسماعيل قبل أن يرفعه إبراهيم وإسماعيل, ودفنت في موضع الحجر.

حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني علي بن عبد الله بن الوازع, عن أيوب السختياني, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس أن الملك الذي أخرج زمزم لهاجر قال لها: وسيأتي أبو هذا الغلام فيبني بيتًا هذا مكانه, وأشار لها إلى موضع البيت ثم انطلق الملك.

ما ذكر من نزول جرهم مع أم إسماعيل في الحرم:

حدثني جدي, عن مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن جريج, عن كثير بن كثير, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أخرج الله ماء زمزم لأم إسماعيل فبينا هي على ذلك إذ مر ركب من جرهم, قافلين من الشام في الطريق السفلى, فرأى الركب الطير على الماء فقال بعضهم: ما كان بهذا الوادي من ماء ولا أنيس!.

يقول ابن عباس: فأرسلوا جريين1 لهم حتى أتيا أم إسماعيل فكلماها ثم رجعا إلى ركبهما, فأخبراهم بمكانها.

قال: فرجع الركب كلهم حتى حيوها فردت عليهم وقالوا: لمن هذا الماء؟ قالت أم إسماعيل: هو لي، قالوا لها: أتأذنين لنا أن ننزل معك عليه؟ قالت: نعم.

يقول ابن عباس: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم: "ألفى2 ذلك أم إسماعيل وقد

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لدى ابن الأثير في النهاية: "جرا" وفي حديث أم إسماعيل: "فأرسلوا جريا" أي: رسولًا.

2 في أ، ب: "ألقى" بالقاف، والمثبت رواية الأصل وهي الصواب، وألفاه: وجده وصادفه.

 

 

ج / 1 ص -34- أحبت الأنس فنزلوا وبعثوا إلى أهاليهم, فقدموا إليهم وسكنوا تحت الدوح، واعترشوا عليها العروش1 فكانت معهم هي وابنها، حتى ترعرع الغلام ونفسوا2 فيه وأعجبهم.

وتوفيت أم إسماعيل وطعامهم الصيد يخرجون من الحرم, ويخرج معهم إسماعيل فيصيد، فلما بلغ أنكحوه جارية منهم، قال: وهي في كتاب المبتدأ عن عباد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق: اسم امرأة إسماعيل: عمارة بنت سعيد بن أسامة.

يقول ابن عباس: فأقبل إبراهيم من الشام يقول: حتى أطالع تركتي, فأقبل إبراهيم -عليه السلام- حتى قدم مكة فوجد امرأة إسماعيل فسألها عنه فقالت: هو غائب، ولم تلن له في القول فقال لها إبراهيم: قولي لإسماعيل: قد جاء بعدك شيخ كذا وكذا وهو يقرئ عليك السلام ويقول لك: غير عتبة بيتك؛ فإني لم أرضها.

يقول ابن عباس: وكان إسماعيل عليه السلام كلما جاء سأل أهله: هل جاءكم أحد بعدي؟ فلما رجع سأل أهله فقالت امرأته: قد جاء بعدك شيخ فنعتته له فقال لها إسماعيل: قلت له شيئًا؟ قالت: لا قال: فهل قال لك من شيء؟ قالت: نعم, أقرئي عليه السلام وقولي له: غير عتبة بيتك فإني لم أرضها لك, قال إسماعيل: أنت عتبة بيتي فارجعي إلى أهلك, فردها إسماعيل إلى أهلها فأنكحوه امرأة أخرى.

يقول ابن عباس: ثم لبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث, ثم رجع إبراهيم فوجد إسماعيل غائبًا ووجد امرأته الآخرة3 فوقف فسلم فردت عليه السلام

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أ، ب: "العرش" والمثبت رواية الأصل.

2 لدى ابن الأثير في النهاية: "نفس". وفي حديث إسماعيل -عليه السلام: "أنه تعلم العربية وأنفسهم" أي: أعجبهم, وصار عندهم نفيسًا.

3 كذا في الأصل أ، وفي ب: "الأخرى".

 

 

ج / 1 ص -35- واستنزلته وعرضت عليه الطعام والشراب فقال: ما طعامكم وشرابكم؟ قالت: اللحم والماء قال: هل من حب أو غيره من الطعام؟ قالت: لا قال: بارك الله لكم في اللحم والماء.

قال ابن عباس: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو وجد عندها يومئذ حبا لدعا لهم بالبركة فيه, فكانت أرضًا ذات زرع".

ثم ولى إبراهيم -عليه السلام- وقال: قولي له: قد جاء بعدك شيخ فقال: إني وجدت عتبة بيتك صالحة فاقررها, فرجع إسماعيل عليه السلام إلى أهله فقال: هل جاءكم بعدي أحد؟ قالت: نعم قد جاء بعدك شيخ كذا وكذا قال: فهل عهد إليكم من شيء؟ قالت: نعم يقول: اني وجدت عتبة بيتك صالحة فاقررها.

ما ذكر من بناء إبراهيم -عليه السلام- الكعبة:

حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن جريج, عن كثير بن كثير, عن سعيد بن جبير قال: حدثنا عبد الله بن عباس قال: لبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث, ثم جاء الثالثة فوجد إسماعيل -عليه السلام- قاعدًا تحت الدوحة التي بناحية البئر يبري نبلًا أو نبالًا له, فسلم عليه ونزل إليه فقعد معه, فقال إبراهيم: يا إسماعيل, إن الله تعالى قد أمرني بأمر فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك، فقال إبراهيم: يا إسماعيل, أمرني ربي أن أبني له بيتًا، قال له إسماعيل: وأين؟

يقول ابن عباس: فأشار له إلى أكمة مرتفعة على ما حولها عليها رضراض من حصباء, يأتيها السيل من نواحيها ولا يركبها.

يقول ابن عباس: فقاما يحفران عن القواعد, ويحفرانها ويقولان: ربنا تقبل

 

 

ج / 1 ص -36- منا إنك سميع الدعاء {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].

ويحمل له إسماعيل الحجارة على رقبته ويبني الشيخ إبراهيم, فلما ارتفع البناء وشق على الشيخ إبراهيم تناوله قرب له إسماعيل هذا الحجر -يعني المقام- فكان يقوم عليه ويبني ويحوله في نواحي البيت, حتى انتهى إلى وجه البيت. يقول ابن عباس: فلذلك سمي مقام إبراهيم لقيامه عليه.

حدثني مهدي بن أبي المهدي، قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر, عن أيوب السختياني وكثير بن كثير -يزيد أحدهما على صاحبه- عن سعيد بن جبير في حديث حدث به, طويل عن ابن عباس قال: فجاء إبراهيم وإسماعيل يبري نبلًا له أو نباله تحت الدوحة قريبًا من زمزم, فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بولده, والولد بوالده.

قال معمر: وسمعت رجلًا يقول: بكيا حتى أجابتهما الطير. قال سعيد: فقال: يا إسماعيل إن الله عز وجل قد أمرني بأمر قال: فأطع ربك فيما أمرك قال: وتعينني؟ قال: وأعينك قال: فإن الله تعالى قد أمرني أن أبني له بيتًا ههنا, فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت.

حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، قال: أخبرني ابن جريج قال: قال مجاهد: أقبل إبراهيم والسكينة والصرد والملك من الشام فقالت السكينة: يا إبراهيم ربض علي البيت؛ فلذلك لا يطوف بالبيت ملك من هذه الملوك ولا أعرابي نافر إلا رأيت عليه السكينة قال: وقال ابن جريج: أقبلت معه السكينة لها رأس كرأس الهرة, وجناحان.

وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن ابن جريج قال: قال علي بن أبي طالب: أقبل إبراهيم عليه السلام والملك والسكينة والصرد دليلًا حتى تبوأ البيت الحرام كما تبوأت العنكبوت بيتها, فحفر فأبرز عن ربض أمثال خلف الإبل لا يحرك الصخرة إلا ثلاثون رجلًا. قال: ثم قال لإبراهيم: "قم فابن لي بيتًا" قال: يا رب وأين؟ قال: "سنريك"

 

 

ج / 1 ص -37- قال: فبعث الله تعالى سحابة فيها رأس يكلم1 إبراهيم, فقال: يا إبراهيم, إن ربك يأمرك أن تخط قدر هذه السحابة, فجعل ينظر إليها ويأخذ قدرها فقال له الرأس: أقد فعلت؟ قال: نعم, فارتفعت السحابة فأبرز عن أس ثابت من الأرض, فبناه إبراهيم عليه السلام.

قال: وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن أبان, عن ابن إسحاق السبيعي, عن حارثة بن مضرب, عن علي بن أبي طالب في حديث حدث به عن زمزم قال: ثم نزلت السكينة كأنها غمامة أو ضبابة في وسطها كهيئة الرأس يتكلم يقول: يا إبراهيم,, خذ قدري من الأرض، لا تزد ولا تنقص، فخط فذلك بكة وما حواليه مكة.

حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه أنه أخبر2 قال: لما ابتعث الله تعالى إبراهيم خليله ليبني له البيت, طلب الأساس الأول الذي وضع بنو آدم في موضع الخيمة التي عزى الله بها آدم -عليه السلام- من خيام الجنة حين وضعت له بمكة في موضع البيت الحرام, فلم يزل إبراهيم يحفر حتى وصل إلى القواعد التي أسس بنو آدم في زمانهم في موضع الخيمة، فلما وصل إليها أظل الله له مكان البيت بغمامة، فكانت حفاف البيت الأول، ثم لم تزل راكدة على حفافه تظل إبراهيم وتهديه مكان القواعد حتى رفع القواعد قامة, ثم انكشطت الغمامة فذلك قوله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] أي: الغمامة التي ركدت على الحفاف ليهتدي بها مكان القواعد, فلم يزل والحمد لله منذ يوم رفعه الله معمورًا.

حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني هاشم قال: أخبرنا حماد, عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في الأصل، وفي أ: "يتكلم" وفي ب: "تكلم".

2 كذا في الأصل أ, وفي ب: "أخبره".

 

 

ج / 1 ص -38- عن علي بن أبي طالب في قوله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96, 97] قال: إنه ليس بأول بيت, كان نوح في البيوت قبل إبراهيم, وكان إبراهيم في البيوت, ولكنه أول بيت وضع للناس {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} هذه الآيات قال: إن إبراهيم أمر ببناء البيت فضاق به ذرعًا فلم يدر كيف يبني, فأرسل الله تعالى إليه السكينة وهي ريح خَجُوج1 لها رأس حتى تطوقت مثل الحجفة فبنى عليها وكان يبني كل يوم سافا ومكة يومئذ شديدة الحر، فلما بلغ موضع الحجر قال لإسماعيل: اذهب فالتمس حجرًا أضعه ههنا؛ ليهدى الناس به.

فذهب إسماعيل يطوف في الجبال وجاء جبريل بالحجر الأسود, وجاء إسماعيل فقال: من أين لك هذا الحجر؟ قال: من عند من لم يتكل على بنائي وبنائك.

ثم انهدم فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته قبيلة من جرهم، ثم انهدم فبنته قريش. فلما أرادوا أن يضعوا الحجر تنازعوا فيه فقالوا: أول رجل يدخل علينا من هذا الباب فهو يضعه، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر بثوب فبسط ثم وضعه فيه, ثم قال: "ليأخذ من كل قبيلة رجل من ناحية الثوب" ثم رفعوه ثم أخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضعه.

حدثني جدي قال: حدثني سفيان بن عيينة, عن بشر بن عاصم, عن سعيد بن المسيب قال: أخبرني علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال: أقبل إبراهيم من أرمينية معه السكينة تدله حتى تبوأ البيت كما تبوأت العنكبوت بيتها, فرفعوا عن أحجار الحجر يطيقه أو لا يطيقه ثلاثون رجلًا.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لدى ابن الأثير في النهاية "خجج". في حديث علي -رضي الله عنه- وذكر بناء الكعبة "فبعث الله السكينة، وهي ريح خجوج، فتطوقت بالبيت" يقال: ريح خجوج أي: شديدة المرور في غير استواء.

 

 

ج / 1 ص -39- حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر, عن قتادة في قوله عز وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] قال: التي كانت قواعد البيت قبل ذلك، قال الخزاعي: وحدثناه أبو عبيد الله بإسناد عن سفيان مثله.

حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني هاشم قال: حدثنا أبو عوانة, عن ابن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: أما والله ما بنياه بقصة ولا مدر ولا كان معهما من الأعوان والأموال ما يسقفانه, ولكنهما أعلماه فطافا به.

حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن مجاهد عن الشعبي قال: لما أمر إبراهيم أن يبني البيت وانتهى إلى موضع الحجر قال لإسماعيل: ائتني بحجر ليكون علمًا للناس يبتدئون منه الطواف, فأتاه بحجر فلم يرضه فأتى إبراهيم بهذا الحجر ثم قال: أتاني به من لم يكلني على حجرك.

وحدثني جدي, قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن بشر بن عاصم قال: أقبل إبراهيم من أرمينية معه السكينة والملك والصرد دليلًا يتبوأ البيت كما تبوأت العنكبوت بيتها, فرفع صخرة فما رفعها عنه إلا ثلاثون رجلًا فقالت السكينة: ابن علي فلذلك لا يدخله أعرابي نافر ولا جبار إلا رأيت عليه السكينة.

وحدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا بشر بن السري البصري, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن أبي قلابة قال: قال الله تعالى: "يا آدم, إني مهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي" فلم يزل كذلك حتى كان زمن الطوفان فرفع، حتى بوأ لإبراهيم مكانه فبناه من خمسة أجبل من حرا، وثبير، ولبنان، والطور، والجبل الأحمر.

وحدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عمر بن سهل, عن يزيد بن

 

 

ج / 1 ص -40- نافع, عن سعيد, عن قتادة في قوله عز وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ} [البقرة: 127] قال: ذكر لنا أنه بناه من خمسة أجبل من طور سينا، وطور زيتا، ولبنان، والجودي، وحرا، وذكر لنا أن قواعده من حراء.

حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال: حدثنا العلاء, عن عمر بن مرة عن يوسف بن ماهك قال: قال عبد الله بن عمرو: إن جبريل -عليه السلام- هو الذي نزل عليه بالحجر من الجنة، وإنه وضعه حيث رأيتم، وإنكم لن تزالوا بخير ما دام بين ظهرانيكم، فتمسكوا به ما استطعتم, فإنه يوشك أن يجيء فيرجع به من حيث جاء به.

حدثني جدي عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: لما أمر إبراهيم -خليل الله تعالى- أن يبني البيت الحرام أقبل من أرمينية على البراق معه السكينة لها وجه يتكلم، وهي بعد ريح هفافة، ومعه ملك يدله على موضع البيت حتى انتهى إلى مكة وبها إسماعيل, وهو يومئذ ابن عشرين سنة وقد توفيت أمه قبل ذلك ودفنت في موضع الحجر، فقال: يا إسماعيل, إن الله تعالى قد أمرني أن أبني له بيتًا، فقال له إسماعيل: وأين موضعه؟ قال: فأشار له الملك إلى موضع البيت قال: فقاما يحفران عن القواعد ليس معهما غيرهما, فبلغ إبراهيم الأساس أساس آدم الأول فحفر عن ربض في البيت, فوجد حجارة عظامًا ما يطيق الحجر منها ثلاثون رجلا، ثم بنى على أساس آدم الأول وتطوقت السكينة كأنها حية على الأساس الأول، وقالت: يا إبراهيم, ابن علي, فبنى عليها فلذلك لا يطوف بالبيت أعرابي نافر ولا جبار إلا رأيت عليه السكينة, فبنى البيت وجعل طوله في السماء تسعة أذرع وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعًا من الركن الأسود إلى الركن الشامي الذي عند الحجر من وجهه, وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي فيه الحجر اثنين وعشرين ذراعًا، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني واحدا وثلاثين ذراعًا،

 

 

ج / 1 ص -41- وجعل عرض شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعًا؛ فلذلك سميت الكعبة لأنها على خلقة الكعب.

قال: وكذلك بنيان أساس آدم عليه السلام، وجعل بابها بالأرض غير مبوب حتى كان تبع أسعد الحميري هو الذي جعل لها بابًا وغلقًا فارسيًّا، وكساها كسوة تامة ونحر عندها.

قال: وجعل إبراهيم -عليه السلام- الحجر إلى جنب البيت عريشًا من أراك تقتحمه العنز, فكان زربًا لغنم إسماعيل.

قال: وحفر إبراهيم -عليه السلام- جُبًّا في بطن البيت على يمين من دخله يكون خزانة للبيت, يلقى فيه ما يهدى للكعبة, وهو الجب الذي نصب عليه عمرو بن لحي هبل الصنم الذي كانت قريش تعبده وتستقسم عنده بالأزلام حين جاء به من هيت من أرض الجزيرة.

قال: وكان إبراهيم يبني وينقل له إسماعيل الحجارة على رقبته, فلما ارتفع البنيان قرب له المقام فكان يقوم عليه ويبني ويحوله إسماعيل في نواحي البيت, حتى انتهى إلى موضع الركن الأسود.

قال إبراهيم لإسماعيل: يا إسماعيل, أبغني حجرًا أضعه ههنا يكون للناس علمًا يبتدئون منه الطواف. فذهب إسماعيل يطلب له حجرًا ورجع وقد جاءه جبريل بالحجر الأسود, وكان الله عز وجل استودع الركن أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح، وقال: "إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له".

قال: فجاءه إسماعيل فقال له: يا أبت, من أين لك هذا؟ قال: جاءني به من لم يكلني إلى حجرك, جاء به جبريل، فلما وضع جبريل الحجر في مكانه وبنى عليه إبراهيم وهو حينئذ يتلألأ تلألؤًا من شدة بياضه، فأضاء نوره شرقًا، وغربًا، ويمنًا، وشامًا، قال: فكان نوره يضيء إلى منتهى أنصاب الحرم

 

 

ج / 1 ص -42- من كل ناحية من نواحي الحرم.

قال: وإنما شدة سواده؛ لأنه أصابه الحريق مرة بعد مرة في الجاهلية، والإسلام.

فأما حريقه في الجاهلية، فإنه ذهبت امرأة في زمن قريش تجمر الكعبة, فطارت شرارة في أستار الكعبة فاحترقت الكعبة واحترق الركن الأسود واسود وتوهنت الكعبة، فكان هو الذي هاج قريشًا على هدمها وبنائها. وأما حريقه في الإسلام ففي عصر ابن الزبير أيام حاصره الحصين بن نمير الكندي، احترقت الكعبة واحترق الركن فتفلق بثلاث فلق, حتى شعبه ابن الزبير بالفضة فسواده لذلك.

قال: ولولا ما مس الركن من أنجاس الجاهلية وأرجاسها ما مسه ذو عاهة إلا شفي.

قال سعيد بن سالم: قال ابن جريج: وكان ابن الزبير بنى الكعبة من الذرع على ما بناها إبراهيم عليه السلام قال: وهي مكعبة على خلقة الكعب؛ فلذلك سميت الكعبة.

قال: ولم يكن إبراهيم سقف الكعبة ولا بناها بمدر, وإنما رضمها رضمًا1.

حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: السكينة لها رأس كرأس الهرة، وجناحان.

حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا بشر بن السري قال: حدثنا قيس بن الربيع, عن سلمة بن كهيل, عن أبي الأحوص, عن علي بن أبي طالب قال: السكينة لها رأس كرأس الإنسان, ثم هي بعد ريح هفَّافة.

حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا الفزاري, عن جويبر عن الضحاك قال: السكينة: الرحمة.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لدى ابن الأثير في النهاية "رضم" الرضام: دون الهضاب، وقيل: صخور بعضها على بعض.

 

 

ج / 1 ص -43- ذكر حج إبراهيم -عليه السلام- وأذانه بالحج وحج الأنبياء بعده، وطوافه وطواف الأنبياء بعده:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: لما فرغ إبراهيم -خليل الرحمن- من بناء البيت الحرام جاءه جبريل فقال: طف به سبعًا, فطاف به سبعًا هو وإسماعيل يستلمان الأركان كلها في كل طواف، فلما أكملا سبعًا هو وإسماعيل صليا خلف المقام ركعتين قال: فقام معه جبريل فأراه المناسك كلها: الصفا والمروة ومنى ومزدلفة وعرفة.

قال: فلما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس عند جمرة العقبة، فقال له جبريل: ارمه، فرماه إبراهيم بسبع حصيات فغاب عنه، ثم برز له عند الجمرة الوسطى فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات فغاب عنه، ثم برز له عند الجمرة السفلى فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات مثل حصى الخذف فغاب عنه إبليس.

ثم مضى إبراهيم في حجه وجبريل يوقفه على المواقف ويعلمه المناسك حتى انتهى إلى عرفة، فلما انتهى إليها قال له جبريل: أعرفت مناسكك؟ قال إبراهيم: نعم قال: فسميت عرفات بذلك؛ لقوله: أعرفت مناسكك؟

قال: ثم أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج قال: فقال إبراهيم: يا رب ما يبلغ صوتي قال الله سبحانه: "أذن وعلي البلاغ" قال: فعلا على المقام فأشرف به حتى صار أرفع الجبال وأطولها, فجمعت له الأرض يومئذ سهلها وجبلها وبرها وبحرها وإنسها وجنها, حتى أسمعهم جميعًا.

قال: فأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه1 يمنًا وشامًا وشرقًا وغربًا وبدأ

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "يوجهه".

 

 

ج / 1 ص -44- بشق اليمن فقال: أيها الناس, كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم، فأجابوه من تحت التخوم السبعة, ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أقطار الأرض كلها: لبيك اللهم لبيك قال: وكانت الحجارة على ما هي عليه اليوم, إلا أن الله عز وجل أراد أن يجعل المقام آية فكان أثر قدميه في المقام إلى اليوم قال: أفلا تراهم اليوم يقولون: لبيك اللهم لبيك؟ قال: فكل من حج إلى اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم, وإنما حجهم على قدر إجابتهم يومئذ.

فمن حج حجتين فقد كان أجاب مرتين، أو ثلاثًا فثلاثًا على هذا, قال: وأثر قدمي إبراهيم في المقام آية وذلك قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].

وقال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم -عليه السلام- كان استلم الأركان كلها قبل إبراهيم, وحجه إسحاق وسارة من الشام، قال: وكان إبراهيم -عليه السلام- يحجه كل سنة على البراق، قال: وحجت بعد ذلك الأنبياء والأمم.

وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: حج إبراهيم وإسماعيل ماشيين.

قال أبو محمد عبيد الله المخزومي: حدثنا ابن عيينة بإسناده مثله.

حدثنا الأزرقي قال: وحدثني جدي قال: حدثنا يحيى بن سليم, عن ابن خيثم قال: سمعت عبد الرحمن بن سابط يقول: سمعت عبد الله بن ضمرة السلولي يقول: ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيًّا, جاءوا حجاجًا فقبروا هنالك.

حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني هاشم, عن حماد بن سلمة, عن عطاء بن السائب, عن محمد بن سابط عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة

 

 

ج / 1 ص -45- فيتعبد فيها النبي ومن معه حتى يموت، فمات بها نوح، وهود، وصالح, وشعيب، وقبورهم بين زمزم والحجر".

وحدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن خصيف عن مجاهد أنه قال: حج موسى النبي على جمل أحمر فمر بالروحاء عليه عباءتان قطوانيتان, متزرا بإحداهما مرتديا بالأخرى, فطاف بالبيت، ثم طاف بين الصفا والمروة فبينا هو بين الصفا والمروة إذ سمع صوتًا من السماء وهو يقول: "لبيك عبدي أنا معك" فخر موسى ساجدًا.

حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن خصيف عن مجاهد أنه قال: حج خمسة وسبعون نبيا كلهم قد طاف بالبيت, وصلى في مسجد منى, فإن استطعت أن لا تفوتك الصلاة في مسجد منى فافعل.

حدثني جدي قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن الأشعث بن سوار, عن عكرمة عن ابن عباس قال: صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا كلهم مخطمون بالليف. قال مروان بن معاوية: يعني: رواحلهم.

حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرنا خصيف بن عبد الرحمن عن مجاهد أنه حدثه قال: لما قال إبراهيم: ربنا أرنا مناسكنا، أمر أن يرفع القواعد من البيت، ثم أري الصفا والمروة وقيل: هذا من شعائر الله.

قال: ثم خرج به جبريل, فلما مر بجمرة العقبة إذا بإبليس عليها فقال جبريل: كبر وارمه, ثم ارتفع إبليس إلى الجمرة الوسطى فقال له جبريل: كبر وارمه, ثم ارتفع إبليس إلى الجمرة القصوى فقال له جبريل: كبر وارمه، ثم انطلق إلى المشعر الحرام ثم أتى به عرفة, فقال له جبريل: هل عرفت ما أريتك, ثلاث مرات؟ قال: نعم قال: فأذن في الناس بالحج قال: كيف أقول؟ قال: قل: يا أيها الناس أجيبوا ربكم ثلاث مرات, قال: فقالوا: لبيك

 

 

ج / 1 ص -46- اللهم لبيك قال: فمن أجاب إبراهيم يومئذ فهو حاجّ.

قال خصيف: قال مجاهد حين حدثني بهذا الحديث: أهل القدر لا يصدقون بهذا الحديث.

حدثني جدي قال عثمان: وأخبرني موسى بن عبيدة قال: لما أُمر إبراهيم بالأذان في الناس بالحج استدار بالأرض فدعا في كل وجه: يا أيها الناس أجيبوا ربكم وحجوا قال: فلبى الناس من كل مشرق ومغرب, وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته.

قال عثمان: وأخبرني ابن جريج، قال: قال ابن عباس -رضوان الله عليه: {يَأْتُوكَ رِجَالًا}: مشاة, {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}: بعيد.

قال غيره: {يَأْتُوكَ رِجَالًا}: مشاة على أرجلهم, {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}: لا يدخل الحرم بعير إلا وهو ضامر, {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}: بعيد.

قال عطاء: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}: أبرزها لنا, وأعلمناها.

وقال مجاهد: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}: مذابحنا.

قال: وأخبرني عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني بعض أهل العلم أن عبد الله بن الزبير قال لعبيد بن عمير الليثي: كيف بلغك أن إبراهيم -عليه السلام- دعا إلى الحج؟ قال: بلغني أنه لما رفع إبراهيم القواعد وإسماعيل وانتهى إلى ما أراد الله سبحانه من ذلك وحضر الحج, استقبل اليمن فدعا إلى الله عز وجل وإلى حج بيته, فأجيب أن: لبيك لبيك.

ثم استقبل المشرق, فدعا إلى الله وإلى حج بيته فأجيب أن: لبيك لبيك، وإلى المغرب بمثل ذلك، وإلى الشام بمثل ذلك.

ثم حج إسماعيل ومن معه من المسلمين من جرهم, وهم سكان الحرم يومئذ مع إسماعيل وهم أصهاره، وصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء بمنى, ثم بات بهم حتى أصبح وصلى بهم الغداة، ثم غدا بهم إلى

 

 

ج / 1 ص -47- نمرة فقام بهم هنالك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الظهر والعصر بعرفة في مسجد إبراهيم, ثم راح بهم إلى الموقف من عرفة فوقف بهم, وهو الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام يريه ويعلمه.

فلما غربت الشمس دفع به وبمن معه حتى أتى المزدلفة، فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة, ثم بات حتى إذا طلع الفجر صلى بهم صلاة الغداة، ثم وقف به على قزح من المزدلفة وبمن معه وهو الموقف الذي يقف به الإمام، حتى إذا أسفر غير مشرق دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف ترمى الجمار، حتى فرغ له من الحج كله، وأذن به في الناس.

ثم انصرف إبراهيم راجعًا إلى الشام, فتوفي بها عليه السلام.

قال عثمان: أخبرني ابن إسحاق قال: أمر الله -عز وجل- إبراهيم -عليه السلام- بالحج وإقامته للناس، وأراه مناسك البيت, وشرع له فرائضه. وكان إبراهيم يومئذ حين أمر بذلك ببيت المقدس من إيلياء.

قال عثمان: وأخبرني زهير بن محمد قال: لما فرغ إبراهيم من البيت الحرام قال: أي رب, إني قد فعلت فأرنا مناسكنا, فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به حتى إذا جاء يوم النحر عرض له إبليس، فقال: احصب, فحصب بسبع حصبات, ثم الغد ثم اليوم الثالث فملأ ما بين الجبلين.

ثم علا على ثبير، فقال: يا عباد الله أجيبوا ربكم, فسمع دعوته من بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من ايمان, فقالوا: لبيك اللهم لبيك قال: ولم يزل على وجه الأرض سبعة من المسلمين فصاعدًا, لولا ذاك لأهلكت الأرض ومن عليها.

قال عثمان: وأخبرني زهير بن محمد أن أول من أجاب إبراهيم حين أذن بالحج, أهل اليمن.

 

 

ج / 1 ص -48- وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني عثمان بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح أن موسى بن عمران طاف بين الصفا والمروة وعليه عباءة قطوانية وهو يقول: لبيك اللهم لبيك, فأجابه ربه -عز وجل: "لبيك يا موسى وها أنا معك".

وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: حدثني غالب بن عبيد الله قال: سمعت مجاهدًا يذكر عن ابن عباس -رضوان الله عليه- قال: مر بصفاح الروحاء ستون نبيا، إبلهم مخطمة بالليف.

قال عثمان: وأخبرني غالب بن عبيد الله قال: سمعت مجاهدًا يذكر عن ابن عباس قال: أقبل موسى -نبي الله تعالى- يلبي تجاوبه جبال الشام, على جمل أحمر, عليه عباءتان قطوانيتان1.

قال عثمان: وأخبرني ابن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم, عن عروة بن الزبير أنه قال: بلغني أن البيت وضع لآدم -عليه السلام- يطوف به ويعبد الله عنده, وأن نوحًا قد حجه وجاءه وعظمه قبل الغرق, فلما أصاب الأرض الغرق حين أهلك الله قوم نوح أصاب البيت ما أصاب الأرض من الغرق, فكانت ربوة حمراء معروف مكانه, فبعث الله عز وجل هودًا إلى عاد فتشاغل بأمر قومه حتى هلك ولم يحجه, ثم بعث الله تعالى صالحًا عليه السلام إلى ثمود فتشاغل حتى هلك ولم يحجه، ثم بوأه الله -عز وجل- لإبراهيم فحجه, وعلم مناسكه، ودعا إلى زيارته، ثم لم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا حجه.

قال عثمان: وأخبرني ابن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم, عن سعيد بن المسيب, عن رجل كان من أهل العلم أنه كان يقول: كأني أنظر إلى موسى بن عمران متهبطًا2 من هرشى [بين رابغ والأبواء]3 عليه عباءة

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لدى ابن الأثير في النهاية "قطا" فيه: "كأني أنظر إلى موسى بن عمران في هذا الوادي محرمًا بين قطوانيتين" القطوانية: عباءة بيضاء قصيرة الخمل.

2 كذا في الأصل, وفي سائر الأصول: "منهبطا" وتهبّط: انحدر في بطء.

3 ما بين حاصرتين من الأصل، وساقط من سائر الأصول. ولدى ابن الأثير في النهاية "هرش" ومنه ذكر "ثنية هرشى" وهي ثنية بين مكة والمدينة, وقيل: هرشى: جبل قرب الجحفة, ولدى ياقوت: "هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة, ترى البحر".

 

 

ج / 1 ص -49- قطوانية يلبي بحجه.

قال عثمان: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن عباس -رضوان الله عليه- أنه كان يقول: لقد سلك فج الروحاء سبعون نبيًّا حجاجًا عليهم لباس الصوف, مخطمي إبلهم بحبال الليف، ولقد صلى في مسجد الخيف سبعون نبيًّا.

حدثني جدي قال: قال عثمان بن ساج: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي أن موسى -عليه السلام- حين حج طاف بالبيت فلما خرج إلى الصفا لقيه جبريل عليه السلام فقال: يا صفي الله, إنه الشد, إذا هبطت بطن الوادي فاحتزم موسى نبي الله على وسطه بثوبه, فلما انحدر عن الصفا وبلغ بطن الوادي سعى وهو يقول: لبيك اللهم لبيك قال: يقول الله تعالى: "لبيك يا موسى, ها أنا ذا معك".

قال عثمان: وأخبرني صادق أنه بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد مر بفج الروحاء" -أو قال: "قد مر بهذا الفج- سبعون نبيا على نوق حمر خطمها الليف، ولبوسهم العباء، وتلبيتهم شتى، منهم يونس بن متى فكان يونس يقول: لبيك فراج الكرب لبيك، وكان موسى يقول: لبيك, أنا عبدك, لبيك، قال: وتلبية عيسى: لبيك, أنا عبدك ابن أمتك بنت عبديك, لبيك".

قال عثمان: وأخبرني مقاتل قال: في المسجد الحرام بين زمزم والركن قبر سبعين نبيا, منهم: هود، وصالح، وإسماعيل، وقبر آدم، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف في بيت المقدس.

حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه قال: خطب صالح الذين آمنوا معه فقال لهم: إن هذه دار قد سخط الله عليها وعلى أهلها فاظعنوا عنها؛ فإنها ليست لكم بدار قالوا: رأينا لرأيك

 

 

ج / 1 ص -50- تبع فمرنا نفعل قال: تلحقون بحرم الله وأمنه لا أرى لكم دونه، فأهلوا من ساعتهم بالحج ثم أحرموا في العباء وارتحلوا قلصا حمرا مخطمة بحبال الليف, ثم انطلقوا آمين البيت الحرام حتى وردوا مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا, فتلك قبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني هاشم. وكذلك فعل هود ومن آمن معه, وشعيب ومن آمن معه.

وحدثني جدي, عن رجل من أهل العلم قال: حدثني محمد بن مسلم الرازي, عن جرير بن عبد الحميد الرازي, عن الفضل بن عطية, عن عطاء بن السائب أن إبراهيم -عليه السلام- رأى رجلًا يطوف بالبيت فأنكره فسأله: ممن أنت؟ قال: من أصحاب ذي القرنين قال: وأين هو؟ قال: هو ذا بالأبطح, فتلقاه إبراهيم "فاعتنقه"1 فقيل لذي القرنين: لم لا تركب؟ قال: ما كنت لأركب وهذا يمشي, فحج ماشيًا.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ساقط من: أ.

قوله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} وما جاء في ذلك:

حدثنا أبو محمد قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن جريج قال: بلغنا أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء, ولأنه في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: الكعبة أعظم, فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} حتى بلغ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 96, 97] وليس ذلك في بيت المقدس، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وليس ذلك في بيت المقدس.

 

 

ج / 1 ص -51- قال عثمان: وأخبرني خصيف قال: {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} قال: أول مسجد وُضع للناس.

وقال مجاهد: {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} مثل قوله: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].

قال عثمان: وأخبرني محمد بن أبان, عن زيد بن أسلم أنه قرأ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} حتى بلغ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}، قال: الآيات البينات هي: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، وقال: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27].

وقال عثمان: وأخبرني محمد بن إسحاق أن قول الله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} أي: مسجد {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين} وقال: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92].

قال عثمان: وأخبرني يحيى بن أبي أنيسة في قول الله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} قال: كان موضع الكعبة قد سماه الله عز وجل بيتًا قبل أن تكون الكعبة في الأرض, وقد بني قبله بيت ولكن الله سماه بيتًا، وجعله الله {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} قبلة لهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

ما جاء في مسألة إبراهيم الأمن والرزق لأهل مكة -شرفها الله تعالى- والكتب التي وجد فيها تعظيم الحرم:

حدثنا أبو الوليد قال: وأخبرني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني موسى بن عبيدة الربذي, عن محمد بن كعب القرظي قال: دعا إبراهيم -عليه السلام- للمؤمنين وترك الكفار لم يدع لهم بشيء, فقال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} [البقرة: 126].

 

 

ج / 1 ص -52- وقال زيد بن أسلم: سأل إبراهيم -عليه السلام- ذلك لمن آمن به ثم مصير الكافر إلى النار، قال عثمان: وأخبرني محمد بن السائب الكلبي قال: قال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126] فاستجاب الله عز وجل له, فجعله بلدًا آمنًا وأمن فيه الخائف, ورزق أهله من الثمرات تحمل إليهم من الأفق.

قال عثمان: وقال مقاتل بن حيان: إنما اختص إبراهيم في مسألته في الرزق للذين آمنوا فقال تعالى: الذين كفروا سأرزقهم مع الذين آمنوا, ولكني أمتعهم قليلًا في الدنيا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير.

قال عثمان: وقال مجاهد: جعل الله هذا البلد آمنًا, لا يخاف فيه من دخله.

وحدثني جدي قال: حدثه إبراهيم بن محمد بن المنتشر قال: حدثني سعيد بن السائب بن يسار قال: سمعت بعض ولد نافع بن جبير بن مطعم وغيره يذكرون أنهم سمعوا أنه لما دعا إبراهيم لمكة أن يرزق أهله من الثمرات, نقل الله عز وجل أرض الطائف من الشام فوضعها هنالك رزقًا للحرم.

حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد عن محمد بن المنكدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما وضع الله الحرم نقل إليه الطائف من الشام".

حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا يحيى بن سليم قال: سمعت عبد الرحمن بن نافع بن جبير بن مطعم يقول: سمعت الزهري يقول: إن الله -عز وجل- نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم خليل الله قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}.

حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن جريج, عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: جاء إبراهيم يطالع إسماعيل -عليهما السلام- فوجده غائبًا ووجد امرأته الآخرة، وهي السيدة بنت مضاض بن

 

 

ج / 1 ص -53- عمرو الجرهمي، فوقف فسلم فردت عليه السلام واستنزلته وعرضت عليه الطعام والشراب فقال: ما طعامكم وشرابكم؟ قالت: اللحم والماء، قال: هل من حَبّ أو غيره من الطعام؟ قالت: لا قال: بارك الله لكم في اللحم والماء.

قال ابن عباس -رضوان الله عليه: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو وجد عندها يومئذ حبًّا لدعا لهم بالبركة فيه، فكانت تكون أرضًا ذات زرع".

حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن كثير بن كثير, عن سعيد بن جبير مثله وزاد فيه, قال سعيد بن جبير: ولا يخلى1 أحد على اللحم والماء في غير مكة إلا وجع بطنه, وإن أخلي عليهما بمكة لم يجد كذلك أذى.

قال سعيد بن سالم: فلا أدري عن ابن عباس يحدث بذلك سعيد بن جبير أم لا يعني: قوله: ولا يخلى أحد على اللحم والماء بغير مكة إلا وجع بطنه.

حدثني جدي, قال: حدثنا مسلم بن خالد, عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن ابن عباس رضوان الله عليهما قال: وجد في المقام كتاب: هذا بيت الله الحرام بمكة، توكل الله برزق أهله من ثلاث سبل، مبارك لأهله في اللحم والماء واللبن، لا يحله أول من أهله.

ووجد في حجر في الحجر كتاب من خلقة الحجر: "أنا الله ذو بكة الحرام، وضعتها يوم صنعت الشمس والقمر, وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى تزول أخشباها, مبارك لأهلها في اللحم والماء".

وحدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا رشيد بن أبي كريب, عن أبيه عن ابن عباس رضوان الله عليه قال: لما هدموا الكعبة البيت وبلغوا

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لدى ابن الأثير في النهاية "خلا" ومنه الحديث: "لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه" يعني الماء اللحم أي: ينفرد بهما.

 

 

ج / 1 ص -54- أساس إبراهيم وجدوا في حجر من الأساس كتابًا فدعوا له رجلًا من أهل اليمن، وآخر من الرهبان، فإذا فيه: "أنا الله ذو بكة, حرمتها يوم خلقت السموات والأرض والشمس والقمر, ويوم صنعت هذين الجبلين وحففتها بسبعة أملاك حنفاء".

حدثني جدي, عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال: وأخبرني ابن جريج قال: أخبرنا مجاهد قال: إن في حجر في الحجر: "أنا الله ذو بكة, صغتها يوم صغت الشمس والقمر, وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، مبارك لأهلها في اللحم والماء، يحلها أهلها ولا يحلها أول من أهلها, وقال: لا تزول حتى تزول الأخشبان" قال أبو محمد الخزاعي: الأخشبان يعني الجبلين.

وأخبرني جدي عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني خصيف بن عبد الرحمن عن مجاهد قال: وجد في بعض الزبور: "أنا الله ذو بكة, جعلتها بين هذين الجبلين, وصغتها يوم صغت الشمس والقمر, وحففتها بسبعة أملاك حنفاء, وجعلت رزق أهلها من ثلاث سبل, فليس يؤتى أهل مكة إلا من ثلاث طرق: أعلى الوادي وأسفله وكدا1, وباركت لأهلها في اللحم والماء".

حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان، قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن أبيه عباد أنه حدثه أنهم وجدوا في بئر الكعبة في نقضها كتابين من صفر مثل بيض النعامة, مكتوب في أحدهما: هذا بيت الله الحرام, رزق الله أهله العبادة, لا يحله أول من أهله, والآخر: براءة لبني فلان حي من العرب, من حجه لله حجوها.

حدثني جدي قال: قال عثمان: أخبرني ابن إسحاق أن قريشًا وجدت

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 تحرف في ب إلى: "كذا".

 

 

ج / 1 ص -55- في الركن كتابًا بالسريانية فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من اليهود, فإذا هو: "أنا الله ذو بكة, خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر, وحففتها بسبعة أملاك حنفاء, لا تزول حتى يزول1 أخشباها, مبارك لأهلها في الماء واللبن".

حدثني جدي قال: قال عثمان: أخبرني محمد بن إسحاق قال: زعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرًا في الكعبة قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربعين حجة, وذلك عام الفيل إن كان ما ذكر لي حقا: من يزرع خيرًا يحصد غبطة، ومن يزرع شرًّا يحصد ندامة, تعملون السيئات وتجزون الحسنات, أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 أ، ب: "حتى تزول".

ذكر ولاية بني إسماعيل بن إبراهيم الكعبة بعده، وأمر جرهم:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي, حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر عن قتادة أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لقريش: إنه كان ولاة هذا البيت قبلكم طسما, فاستخفوا بحقه، واستحلوا حرمته فأهلكهم الله ثم وليته بعدهم جرهم فاستخفوا بحقه فأهلكهم الله, فلا تهاونوا به وعظموا حرمته.

حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق قال: وُلِدَ لإسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- اثنا عشر رجلًا وأمهم السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي, فولدت له اثني عشر رجلًا: نابت بن إسماعيل، وقيدار بن إسماعيل، وواصل بن إسماعيل، وميَّاس بن إسماعيل، وطيما بن إسماعيل, ويطور بن إسماعيل، ونبش بن إسماعيل،

 

 

ج / 1 ص -56- وقيدما بن إسماعيل. وكان عمر إسماعيل -فيما يذكرون- ثلاثين ومائة سنة, فمن نابت بن إسماعيل، وقيدار بن إسماعيل نشر الله العرب, وكان أكبرهم قيدار ونابت ابنا إسماعيل, ومنهما نشر الله العرب.

وكان من حديث جرهم وبني إسماعيل أن إسماعيل لما توفي دفن مع أمه في الحجر، وزعموا أن فيه دفنت حين ماتت فولي البيت نابت بن إسماعيل ما شاء الله أن يليه، ثم توفي نابت بن إسماعيل, فولي البيت بعده مضاض بن عمرو الجرهمي وهو جد نابت بن إسماعيل أبو أمه, وضم بني نابت بن إسماعيل وبني إسماعيل إليه فصاروا مع جدهم أبي أمهم مضاض بن عمرو ومع أخوالهم من جرهم.

وجرهم وقطورا يومئذ أهل مكة, وعلى جرهم مضاض بن عمرو ملكًا عليهم، وعلى قطورا رجل منهم يقال له: السميدع ملكًا عليهم, وكانا حين ظعنا من اليمن أقبلا سيارة، وكانوا إذا خرجوا من اليمن لم يخرجوا إلا ولهم ملك يقيم أمرهم.

فلما نزلا مكة رأيا بلدًا طيبًا وإذا ماء وشجر فأعجبهما ونزلا به؛ فنزل مضاض بن عمرو بمن معه من جرهم أعلى مكة وقعيقعان فحاز ذلك, ونزل السميدع أجيادين وأسفل مكة فما حاز ذلك.

وكان مضاض بن عمرو يعشر من دخل مكة من أعلاها، وكان السميدع يعشر من دخل مكة من أسفلها ومن كدا, وكل في قومه على حياله لا يدخل واحد منهما على صاحبه في ملكه.

ثم إن جرهما وقطورا بغى بعضهم على بعض وتنافسوا الملك بها واقتتلوا بها حتى نشبت الحرب أو شبت الحرب بينهم على الملك, وولاة الأمر بمكة مع مضاض بن عمرو بنو نابت بن إسماعيل وبنو إسماعيل, وإليه ولاية البيت دون السميدع.

فلم يزل بينهم البغي حتى سار بعضهم إلى بعض فخرج مضاض بن عمرو

 

 

ج / 1 ص -57- من قعيقعان في كتيبة سائرًا إلى السميدع ومع كتيبته عدتها من الرماح، والدرق، والسيوف, والجعاب تقعقع ذلك معه, ويقال: ما سميت قعيقعان إلا بذلك وخرج السميدع بقطورا من أجياد معه الخيل والرجال ويقال: ما سمي أجياد أجيادًا إلا لخروج الخيل الجياد منه مع السميدع, حتى التقوا بفاضح فاقتتلوا قتالًا شديدًا فقتل السميدع وفضحت قطورا ويقال: ما سمي فاضح فاضحا إلا بذلك. ثم إن القوم تداعوا للصلح فساروا حتى نزلوا المطابخ شعبًا بأعلى مكة يقال له: شعب عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس فاصطلحوا بهذا الشعب وأسلموا الأمر إلى مضاض بن عمرو.

فلما جمع إليه أمر أهل مكة وصار ملكها له دون السميدع نحر للناس وأطعمهم فأطبخ للناس, فأكلوا فيقال: ما سميت المطابخ مطابخ إلا بذلك.

قال: فكان الذي كان بين مضاض بن عمرو والسميدع أول بغي كان بمكة فيما يزعمون, فقال مضاض بن عمرو الجرهمي: هي تلك الحرب يذكر السميدع، وقتله، وبغيه والتماسه ما ليس له:

ونحن قتلنا سيد الحي عنوة فأصبح فيها وهو حيران موجع

وما كان يبغي أن يكون سواؤنا بها ملكا حتى أتانا السميدع

فذاق وبالا حين حاول ملكنا وعالج منا غصة تتجرع

فنحن عمرنا البيت كنا ولاته نحامي عنه من أتانا وندفع

وما كان يبغي أن يلي ذاك غيرنا ولم يكن حين قبلنا ثم نمنع

وكنا ملوكًا في الدهور التي مضت ورثنا ملوكا لا ترام وتوضع

قال ابن إسحاق: وقد زعم بعض أهل العلم إنما سميت المطابخ لما كان تبع نحر بها وأطعم بها وكانت منزله، قال: ثم نشر الله تعالى بني إسماعيل بمكة, وأخوالهم من جرهم إذ ذاك الحكام بمكة وولاة البيت, كانوا كذلك بعد نابت

 

 

ج / 1 ص -58- ابن إسماعيل, فلما ضاقت عليهم مكة وانتشروا بها انبسطوا في الأرض وابتغوا المعاش والتفسح في الأرض فلا يأتون قومًا, ولا ينزلون بلدًا إلا أظهرهم الله -عز وجل- عليهم بدينهم فوطئوهم، وغلبوهم عليها حتى ملكوا البلاد ونفوا عنها العماليق ومن كان ساكنًا بلادهم التي كانوا اصطلحوا عليها من غيرهم, وجرهم على ذلك بمكة ولاة البيت, لا ينازعهم إياه بنو إسماعيل لخئولتهم وقرابتهم وإعظام الحرم أن يكون به بغي أو قتال.

حدثني بعض أهل العلم قال: كانت العماليق هم ولاة الحكم بمكة, فضيعوا حرمة الحرم واستحلوا فيه أمورًا عظامًا ونالوا ما لم يكونوا ينالون, فقام رجل منهم يقال له: عموق فقال: يا قوم أبقوا على أنفسكم فقد رأيتم وسمعتم من هلك من صدر الأمم قبلكم قوم هود، وصالح، وشعيب فلا تفعلوا وتواصلوا, فلا تستخفوا بحرم الله وموضع بيته, وإياكم والظلم والإلحاد فيه فإنه ما سكنه أحد قط فظلم فيه وألحد إلا قطع الله دابرهم، واستأصل شأفتهم، وبدل أرضها غيرهم حتى لا يبقى لهم باقية.

فلم يقبلوا ذلك منه وتمادوا في هلكة أنفسهم، قالوا: ثم إن جرهما وقطورا خرجوا سيارة من اليمن وأجدبت بلادهم عليهم فساروا بذراريهم ونعمهم1 وأموالهم وقالوا: نطلب مكانًا فيه مرعى تسمن فيه ماشيتنا, وإن أعجبنا أقمنا فيه, فإن كل بلاد ينزلها أحد ومعه ذريته وماله فهي وطنه, وإلا رجعنا إلى بلدنا.

فلما قدموا مكة وجدوا فيها ماء طيبًا, وعضاهًا ملتفة من سلم وسمر, ونباتًا يسمن مواشيهم, وسعة من البلاد, ودفئا من البرد في الشتاء فقالوا: إن هذا الموضع يجمع لنا ما نريد فأقاموا مع العماليق.

وكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم, وكان ذلك سنة

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في ب. وفي الأصل: "وأنفسهم" وفي أ: "وألفتهم".

 

 

ج / 1 ص -59- فيهم ولو كانوا نفرًا يسيرًا, فكان مضاض بن عمرو ملك جرهم والمطاع فيهم, وكان السميدع ملك قطورا.

فنزل مضاض بن عمرو أعلى مكة وكان يعشر من دخلها من أعلاها, وكان حوزهم وجه الكعبة والركن الأسود والمقام وموضع زمزم مصعدًا يمينًا وشمالًا, وقعيقعان إلى أعلى الوادي.

ونزل السميدع أسفل مكة وأجيادين, وكان يعشر من دخل مكة من أسفلها, وكان حوزهم المسفلة ظهر الكعبة والركن اليماني والغربي وأجيادين والثنية إلى الرمضة, فبنيا فيها البيوت واتسعا في المنازل وكثروا على العماليق.

فنازعتهم العماليق فمنعتهم جرهم, وأخرجوهم من الحرم كله, فكانوا في أطرافه لا يدخلونه فقال لهم صاحبهم عموق: ألم أقل لكم لا تستخفوا بحرمة الحرم فغلبتموني، فجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما, وكثروا وربلوا وأعجبتهم البلاد, وكانوا قومًا عربًا وكان اللسان عربيا.

فكان إبراهيم خليل الله -عليه السلام- يزور إسماعيل -عليه السلام- فلما سمع لسانهم وإعرابهم سمع لهم كلامًا حسنًا ورأى قومًا عربًا, وكان إسماعيل قد أخذ بلسانهم, أمر إسماعيل أن ينكح فيهم, فخطب إلى مضاض بن عمرو ابنته رعلة فزوجه إياها, فولدت له عشرة ذكور وهي أم البيت, وهي زوجته التي غسلت رأس إبراهيم حين وضع رجله على المقام.

قالوا: وتوفي إسماعيل ودفن في الحجر وكانت أمه قد دفنت في الحجر أيضًا, وترك ولدًا من رعلة بنة مضاض بن عمرو الجرهمي فقام مضاض بأمر ولد إسماعيل وكفلهم لأنهم بنو ابنته.

فلم يزل أمر جرهم يعظم بمكة ويستفحل حتى ولوا البيت, وكانوا ولاته وحجابه وولاة الأحكام بمكة فجاء سيل فدخل البيت فانهدم, فأعادته جرهم

 

 

ج / 1 ص -60- على بناء إبراهيم -عليه السلام- وكان طوله في السماء تسعة أذرع.

وقال بعض أهل العلم: كان الذي بنى البيت لجرهم أبو الجدرة, فسمي عمرا الجادر وسموا بني الجدرة.

قال: ثم إن جرهمًا استخفوا بأمر البيت والحرم، وارتكبوا أمورًا عظامًا، وأحدثوا فيها أحداثًا لم تكن, فقام مضاض بن عمرو بن الحارث فيهم فقال: يا قوم احذروا البغي1 فإنه لا بقاء لأهله, قد رأيتم من كان قبلكم من العماليق استخفوا بالحرم فلم يعظموه وتنازعوا بينهم, واختلفوا حتى سلطكم الله عليهم فأخرجتموهم فتفرقوا في البلاد, فلا تستخفوا بحق الحرم وحرمة بيت الله, ولا تظلموا من دخله وجاءه معظمًا لحرمته, أو آخر جاء بائعًا لسلعته أو مرتغبًا في جواركم فإنكم إن فعلتم ذلك تخوفت أن تخرجوا منه خروج ذل وصغار حتى لا يقدر أحد منكم أن يصل إلى الحرم, ولا إلى زيارة البيت الذي هو لكم حرز وأمن, والطير يأمن فيه.

قال قائل منهم, يقال له مجدع: من الذي يخرجنا منه؟ ألسنا أعز العرب وأكثرهم رجالًا وسلاحًا؟ فقال مضاض بن عمرو: إذا جاء الأمر بطل ما تقولون, فلم يقصروا عن شيء مما كانوا يصنعون.

وكان للبيت خزانة بئر في بطنه يلقى فيها الحلي والمتاع الذي يهدى له وهو يومئذ لا سقف له فتواعد له خمسة نفر من جرهم أن يسرقوا ما فيه, فقام على كل زاوية من البيت رجل منهم واقتحم الخامس فجعل الله عز وجل أعلاه أسفله, وسقط منكسًا فهلك وفر الأربعة الآخرون, فعند ذلك مسحت الأركان الأربعة.

وقد بلغنا في الحديث أن إبراهيم خليل الله مسح الأركان الأربعة كلها أيضًا، وبلغنا في الحديث أن آدم مسح قبل ذلك الأركان الأربعة, فلما كان

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في الأصل ب. وفي أ: "النغي".

 

 

ج / 1 ص -61- من أمر هؤلاء الذين حاولوا سرقة ما في خزانة الكعبة ما كان, بعث الله حية سوداء الظهر، بيضاء البطن رأسها مثل رأس الجدي فحرست البيت خمسمائة سنة لا يقربه أحد بشيء من معاصي الله إلا أهلكه الله تعالى، ولا يقدر أحد أن يروم سرقة ما كان في الكعبة.

فلما أرادت قريش بناء البيت منعتهم الحية هدمه, فلما رأوا ذلك اعتزلوا عند المقام ثم دعوا الله تعالى فقالوا: اللهم ربنا إنما أردنا عمارة بيتك, فجاء طير أسود الظهر، أبيض البطن, أصفر الرجلين فأخذها فاحتملها فجرها حتى أدخلها أجياد.

وقال بعض أهل العلم: إن جرهمًا لما طغت في الحرم دخل رجل منهم وامرأة يقال لهما: إساف ونائلة البيت ففجرا فيه فمسخهما الله تعالى حجرين, فأخرجا من الكعبة فنصبا على الصفا والمروة ليعتبر بهما من رآهما, وليزدجر الناس عن مثل ما ارتكبا, فلم يزل أمرهما يدرس ويتقادم حتى صارا صنمين يعبدان.

وقال بعض أهل العلم: إن عمرو بن لحي دعا الناس إلى عبادتهما وقال للناس: إنما نصبا ههنا ليعبدا, وإن آباءكم ومن قبلكم كانوا يعبدونهما, وإنما ألقاه إبليس عليه وكان عمرو بن لحي فيهم شريفًا سيدًا مطاعًا ما قال لهم فهو دين متبع.

قال: ثم حولهما قصي بن كلاب بعد ذلك, فوضعهما يذبح عندهما وجاه الكعبة عند موضع زمزم.

وقد اختلف علينا في نسبهما فقال قائل: إساف ابن بغا ونائلة بنت ذئب, فالذي ثبت عندنا من ذلك عمن نثق به منهم عبد الرحمن بن أبي الزناد كان يقول: هو أساف بن سهيل, ونائلة بنت عمرو بن ذئب.

وقال بعض أهل العلم: إنه لم يفجر بها في البيت وإنما قبّلها، قالوا: فلم

 

 

ج / 1 ص -62- يزالا يعبدان حتى كان يوم الفتح فكسرا.

وكانت مكة لا يقر فيها ظالم، ولا باغٍ، ولا فاجر إلا نفي منها وكان نزلها بعهد العماليق وجرهم جبابرة فكل من أراد البيت بسوء أهلكه الله, فكانت تسمى بذلك الباسة.

ويروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: سميت بكة؛ لأنها كانت تبكّ أعناق الجبابرة.

وحدثني جدي قال: ويروى عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول: سمي البيت العتيق؛ لأنه عتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه.

وروي عن عطاء بن يسار ومحمد بن كعب القرظي أنهما كانا يقولان: إنما سمي البيت العتيق؛ لقدمه.

حدثني جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي قالا: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن خيثم قال: كان بمكة حي يقال لهم: العماليق, فأحدثوا فيها أحداثًا فجعل الله تعالى يقودهم بالغيث ويسوقهم بالسنة، يضع الغيث أمامهم فيذهبون ليرجعوا فلا يجدون شيئًا فيتبعون الغيث حتى ألحقهم بمساقط رءوس آبائهم، وكانوا من حمير, ثم بعث الله -عز وجل- عليهم الطوفان. قال أبو خالد الزنجي: فقلت لابن خيثم: وما الطوفان؟ قال: الموت.

حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي, عن عطاء عن ابن عباس -رضوان الله عليه- أنه كان بمكة حي يقال لهم: العماليق فكانوا في عزة وكثرة، وثروة, وكانت لهم أموال كثيرة من خيل، وإبل، وماشية وكانت ترعى بمكة وما حولها من مر، ونعمان وما حول ذلك، وكانت الخرف عليهم مظلة، والأربعة مغدقة، والأودية نجالا، والعضاه ملتفة, والأرض مبقلة, وكانوا في عيش رخي فلم يزل بهم البغي والإسراف على أنفسهم والإلحاد بالظلم وإظهار المعاصي والاضطهاد لمن قاربهم ولم يقبلوا ما

 

 

ج / 1 ص -63- أوتوا بشكر الله حتى سلبهم الله تعالى ذلك, فنقصهم بحبس المطر عنهم، وتسليط الجدب عليهم, فكانوا يكرون بمكة الظل ويبيعون الماء, فأخرجهم الله تعالى من مكة بالذر سلطه عليهم حتى خرجوا من الحرم فكانوا حوله, ثم ساقهم الله بالجدب يضع الغيث أمامهم ويسوقهم بالجدب حتى ألحقهم الله تعالى بمساقط رءوس آبائهم وكانوا قومًا عربًا من حمير, فلما دخلوا بلاد اليمن تفرقوا وهلكوا, فأبدل الله تعالى الحرم بعدهم بجرهم, فكانوا سكانه حتى بغوا فيه واستخفوا بحقه, فأهلكهم الله عز وجل جميعًا.

ما ذكر من ولاية خزاعة الكعبة بعد جرهم، وأمر مكة:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن الكلبي عن أبي صالح قال: لما طالت ولاية جرهم استحلوا من الحرم أمورًا عظاما ونالوا ما لم يكونوا ينالون واستخفوا بحرمة الحرم وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها سرا وعلانية, وكلما عدا سفيه منهم على منكر وجد من أشرافهم من يمنعه ويدفع عنه, وظلموا من دخلها من غير أهلها حتى دخل رجل منهم بامرأته الكعبة فيقال: فجر بها أو قبلها فمسخا حجرين, فرق أمرهم فيها وضعفوا وتنازعوا أمرهم بينهم واختلفوا, وكانوا قبل ذلك من أعز حي في العرب, وأكثرهم رجالًا وأموالًا وسلاحًا وأعز عزة.

فلما رأى ذلك رجل منهم يقال له: مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو, قام فيهم خطيبًا فوعظهم وقال: يا قوم, أبقوا على أنفسكم وراقبوا الله في حرمه وأمنه, فقد رأيتم وسمعتم من هلك من صدر هذه الأمم قبلكم, قوم هود وقوم صالح وشعيب, فلا تفعلوا وتواصلوا, وتواصوا

 

 

ج / 1 ص -64- بالمعروف وانتهوا عن المنكر, ولا تستخفوا بحرم الله تعالى وبيته الحرام، ولا يغرنكم1 ما أنتم فيه من الأمن والقوة فيه.

وإياكم والإلحاد فيه بالظلم, فإنه بوار. وايم الله لقد علمتم أنه ما سكنه أحد قط فظلم فيه وألحد إلا قطع الله عز وجل دابرهم، واستأصل شأفتهم، وبدل أرضها غيرهم، فاحذروا البغي فإنه لا بقاء لأهله, قد رأيتم وسمعتم من سكنه قبلكم من طسم وجديس والعماليق ممن كانوا أطول منكم أعمارًا وأشد قوة، وأكثر رجالًا وأموالًا وأولادًا, فلما استخفوا بحرم الله وألحدوا فيه بالظلم أخرجهم الله منها بالأنواع الشتى, فمنهم من أخرج بالذر، ومنهم من أخرج بالجدب، ومنهم من أخرج بالسيف.

وقد سكنتم مساكنهم وورثتم الأرض من بعدهم فوقروا حرم الله, وعظموا بيته الحرام, وتنزهوا عنه وعما فيه, ولا تظلموا من دخله وجاء معظمًا لحرماته, وآخر جاء بائعًا لسلعته أو مرتغبًا في جواركم، فإنكم إن فعلتم ذلك تخوفت أن تخرجوا من حرم الله خروج ذل وصغار, حتى لا يقدر أحد منكم أن يصل إلى الحرم, ولا إلى زيارة البيت الذي هو لكم حرز وأمن, والطير والوحوش تأمن فيه.

فقال له قائل منهم يرد عليه يقال له مجذَّع: من الذي يخرجنا منه؟ ألسنا أعز العرب وأكثرهم رجالًا وسلاحًا؟ فقال له مضاض بن عمرو: إذا جاء الأمر بطل ما تقولون, فلم يقصروا عن شيء مما كانوا يصنعون.

فلما رأى مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض ما تعمل جرهم في الحرم وما تسرق من مال الكعبة سرا وعلانية, عمد إلى غزالين كانا في الكعبة من ذهب وأسياف قلعية, فدفنها في موضع بئر زمزم وكان ماء زمزم قد نضب وذهب لما أحدثت جرهم في الحرم ما أحدثت حتى غبي مكان

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في ب، وفي الأصل: "ولا يغركم" وفي أ: "ولا يغرنك".

 

 

ج / 1 ص -65- البئر ودرس, فقام مضاض بن عمرو وبعض ولده في ليلة مظلمة فحفر في موضع زمزم وأعمق, ثم دفن فيه الأسياف والغزالين.

فبينا هم على ذلك إذ كان من أمر أهل مأرب ما ذكر أنه ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر الذي يقال له: مزيقياء بن ماء السماء وهو عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

وكانت قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب, وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين, فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه من بلد إلى بلد لا يطئون بلدًا إلا غلبوا عليه وقهروا أهله حتى يخرجوا منه؛ ولذلك حديث طويل اختصرناه.

فلما قاربوا مكة ساروا ومعهم طريفة الكاهنة, فقالت لهم: سيروا وأسيروا1 فلن تجتمعوا2 أنتم ومن خلفتم أبدًا فهذا لكم أصل وأنتم له فرع, ثم قالت: مه مه, وحق ما أقول ما علمني ما أقول إلا الحكيم المحكم رب جميع الإنس من عرب وعجم.

فقالوا لها: ما شأنك يا طريفة؟ قالت: خذوا البعير فخضبوه بالدم تلون أرض جرهم جيران بيته المحرم، قال: فلما انتهى إلى مكة وأهلها جرهم وقد قهروا الناس وحازوا ولاية البيت على بني إسماعيل وغيرهم أرسل إليهم ثعلبة بن عمرو بن عامر: يا قوم إنا قد خرجنا من بلادنا فلم ننزل بلدًا إلا فسح أهلها لنا وتزحزحوا عنا فنقيم معهم حتى نرسل روادنا فيرتادوا لنا بلدًا يحملنا, فافسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم قدر ما نستريح ونرسل روادنا إلى

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 في الأصل: "سيرا".

2 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "فلن تجمعوا".

 

 

ج / 1 ص -66- الشام وإلى الشرق فحيثما بلغنا أنه أمثل لحقنا به, وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيرًا.

فأبت جرهم ذلك إباء شديدًا واستكبروا في أنفسهم وقالوا: لا والله, ما نحب أن تنزلوا معنا فتضيقوا علينا مراتعنا ومواردنا, فارحلوا عنا حيث أحببتم فلا حاجة لنا بجواركم، فأرسل إليهم ثعلبة أنه لا بد لي من المقام بهذا البلد حولا حتى يرجع إلي رسلي التي أرسلت, فإن تركتموني طوعًا نزلت وحمدتكم وواسيتكم في الرعي والماء، وإن أبيتم أقمت على كرهكم, ثم لم ترتعوا معي إلا فضلًا ولن تشربوا إلا رنقًا.

سئل أبو الوليد عن الرنق فقال: الكدر من الماء, وأنشد لزهير:

كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت من طيب الراح لما بعد أن غبقا

سح السقاة على ناجودها شبما من ماء لينة لا طلقا ولا رنقا

وإن قاتلتموني قاتلتكم, ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء، وقتلت الرجال ولم أترك أحدًا منكم ينزل الحرم أبدًا.

فأبت جرهم أن تتركه طوعًا وتعبت لقتاله, فاقتتلوا ثلاثة أيام وأفرغ عليهم الصبر ومنعوا النصر ثم انهزمت جرهم, فلم ينفلت منهم إلا الشريد.

وكان مضاض بن عمرو بن الحارث قد اعتزل جرهمًا ولم يعن جرهم في ذلك, وقال: قد كنت أحذركم هذا. ثم رحل هو وولده وأهل بيته حتى نزلوا قنونا وحلى وما حول ذلك فبقايا جرهم بها إلى اليوم وفنيت جرهم, أفناهم السيف في تلك الحرب.

وأقام ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا فأصابتهم الحمى وكانوا في بلد لا يدرون فيه ما الحمى, فدعوا طريفة فأخبروها الخبر1،

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في ب، وفي الأصل أ: "فدعوا طريفة الخبر".

 

 

ج / 1 ص -67- فشكوا إليها الذي أصابهم, فقالت لهم: قد أصابني بؤس الذي تشكون1 وهو مفرق ما بيننا.

قالوا: فماذا تأمرين؟ فقالت: فيكم ومنكم الأمير وعلي التسيير قالوا: فما تقولين؟ قالت: من كان منكم ذا هم بعيد، وجمل شديد، ومزاد جديد، فليلحق بقصر عمان المشيد, فكان أزد عمان.

ثم قالت: من كان منكم ذا جلد وقصر وصبر على أزمات الدهر, فعليه بالأراك من بطن مر, فكانت خزاعة.

ثم قالت: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس والخزرج.

ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك والتأمير، وتلبس الديباج والحرير، فليلحق ببصرى وعوير -وهما من أرض الشام- فكان الذين سكنوهما آل جفنة من غسان.

ثم قالت: من كان منكم يريد الثياب الرقاق, والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق، فليلحق بأرض العراق, فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة من غسان وآل محرق, حتى جاءهم روادهم فافترقوا من مكة فرقتين فرقة توجهت إلى عمان وهم أزد عمان.

وسار ثعلبة بن عمرو بن عامر نحو الشام, فنزلت الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر وهم الأنصار بالمدينة, ومضت غسان فنزلوا بالشام ولهم حديث طويل اختصرناه.

وانخزعت خزاعة بمكة فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحي, فولي أمر مكة وحجابة الكعبة.

وقال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر انخزاع خزاعة بمكة ومسير الأوس

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في ب، وفي الأصل: "قد أصابوا الذي يشكون" وفي أ: "قد أصابوا بؤس الذي تشكون".

 

 

ج / 1 ص -68- والخزرج إلى المدينة، وغسان إلى الشام:

فلما هبطنا بطن مر تخزعت خزاعة منا في حلول كراكر

حموا كل وادٍ من تهامة واحتموا بصم القنا والمرهفات البواتر

فكان لها المرباع في كل غارة تشنّ بنجد والفجاج العوابر

خزاعتنا أهل اجتهاد وهجرة وأنصارنا جند النبي المهاجر

وسرنا فلما أن هبطنا بيثرب بلا وهن منا ولا بتشاجر

وجدنا بها رزقًا عدامل بقيت وآثار عاد بالحلال الظواهر

فحلت بها الأنصار ثم تبوأت بيثربها دارا على خير طاير

بنو الخزرج الأخيار والأوس إنهم حموها بفتيان الصباح البواكر

نفوا من طغا في الدهر عنها وذبّبوا يهودا بأطراف الرماح الخواطر

وسارت لنا سيارة ذات قوة بكوم المطايا والخيول الجماهر

 

 

ج / 1 ص -69- يؤمون نحو الشام حتى تمكنوا ملوكًا بأرض الشام فوق المنابر

يصيبون فصل القول في كل خطبة إذا وصلوا أيمانهم بالمحاضر

أولاك بنو ماء السماء توارثوا دمشقًا بملك كابرًا بعد كابر

قال: فلما حازت خزاعة أمر مكة وصاروا أهلها, جاءهم بنو إسماعيل وقد كانوا اعتزلوا حرب جرهم وخزاعة فلم يدخلوا في ذلك فسألوهم السكنى معهم وحولهم فأذنوا لهم, فلما رأى ذلك مضاض بن عمرو بن الحارث وقد كان أصابه من الصبابة إلى مكة ما أحزنه, أرسل إلى خزاعة يستأذنها في الدخول عليهم والنزول معهم بمكة في جوارهم ومتّ إليهم برأيه وتوريعه قومه عن القتال وسوء السيرة في الحرم واعتزاله الحرب, فأبت خزاعة أن تقررهم ونفتهم عن الحرم كله ولم يتركوهم ينزلون معهم فقال عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر لقومه: من وجد منكم جرهميا قد قارب الحرم فدمه هدر. فنزعت إبل لمضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي من قنونا تريد مكة فخرج في طلبها حتى وجد أثرها قد دخلت مكة, فمضى على الجبال من نحو أجياد, حتى ظهر على أبي قبيس يتبصر الإبل في بطن وادي مكة فأبصر الإبل تنحر وتؤكل لا سبيل له إليها, فخاف إن هبط الوادي أن يقتل فولى منصرفًا إلى أهله وأنشأ يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر

ولم يتربع واسطا فجنوبه إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر

بلى نحن كنا أهلها فأزالنا صروف الليالي والجدود العواثر

 

 

ج / 1 ص -70- وبدلنا ربي بها دار غربة بها الذيب يعوي والعدو المحاصر

فإن تملأ الدنيا علينا بكلها وتصبح حال بعدنا وتشاجر

فكنا ولاة البيت من بعد نابت نطوف بهذا البيت والخير ظاهر

ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا فليس لحي غيرنا ثم فاخر

فأنكح جدي خير شخص علمته فأبناؤنا منه ونحن الأصاهر

فأخرجنا منها المليك بقدرة كذلك حال الناس تجري المقادر

أقول إذا نام الخلي ولم أنم إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر

وبدلت منهم أوجها لا أحبها وحمير قد بدلتها واليحابر

وصرنا أحاديثًا وكنا بغبطة كذلك عضتنا السنون الغوابر

فسحَّت دموع العين تبكي لبلدة بها حرم أمن وفيها المشاعر

بوادٍ أنيس ليس يؤذى حمامه ولا منفرا يومًا وفيها العصافر

وفيها وحوش لا تراب أنيسة إذا خرجت منها فما أن تغادر

فيا ليت شعري هل تعمر بعدنا جياد فممضى سيله فالظواهر

فبطن منى وحش كأن لم يسر به مضاض ومن حبي عدي عماير

وقال أيضًا:

يا أيها الحي سيروا إن قصركم أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

إنا كنا كنتمو كنا فغيرنا دهر فسوف كما صرنا تصيرونا

أرجوا المطي وأرخوا من أزمتها قبل الممات وقضّوا ما تقضونا

قد مال دهر علينا ثم أهلكنا بالبغي فيه وند الناس ناسونا

إن التفكر لا يجري بصاحبه عند البديهة في علم له دونا

 

 

ج / 1 ص -71- قضوا أموركم بالحزم إن لها أمور رشد رشدتم ثم مسنونا

واستخبروا في صنيع الناس قبلكم كما استبان طريق عنده الهونا

كنا زمانًا ملوك الناس قبلكم بمسكن في حرام اللّه مسكونا

قال: فانطلق مضاض بن عمرو نحو اليمن إلى أهله وهم يتذاكرون ما حال بينهم وبين مكة, وما فارقوا من أمنها وملكها, فحزنوا على ذلك حزنًا شديدًا, فبكوا على مكة وجعلوا يقولون الأشعار في مكة.

واحتازت خزاعة بحجابة الكعبة وولاية أمر مكة, وفيهم بنو إسماعيل بن إبراهيم بمكة وما حولها, لا ينازعهم أحد منهم في شيء من ذلك ولا يطلبونه.

فتزوج لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر, فهيرة بنت عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي ملك جرهم, فولدت له عمرًا وهو عمرو بن لحي, وبلغ بمكة وفي العرب من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية. وهو الذي قسم بين العرب في حطمة حطموها عشرة آلاف ناقة وكان قد أعور عشرين فحلا وكان الرجل في الجاهلية إذا ملك ألف ناقة فقأ عين فحل إبله, فكان قد فقأ عين عشرين فحلا، وكان أول من أطعم الحاج بمكة سدايف الإبل ولحمانها على الثريد وعم في تلك السنة جميع حاج العرب بثلاثة أثواب من برود اليمن, وكان قد ذهب شرفه في العرب كل مذهب, وكان قوله فيهم دينًا متبعًا لا يخالف, وهو الذي بحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحام وسيب السائبة ونصب الأصنام حول الكعبة، وجاء بهبل من هيت من أرض الجزيرة فنصبه في بطن الكعبة فكانت قريش والعرب تستقسم عنده بالأزلام، وهو أول من غير الحنيفية دين إبراهيم -عليه السلام- وكان أمره بمكة في العرب مطاعًا لا يعصى.

ج / 1 ص -72- وكان بمكة رجل من جرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وكان شاعرًا, فقال لعمرو بن لحي حين غير الحنيفية:

يا عمرو لا تظلم بمكة, إنها بلد حرام

سائل بعاد أين هم وكذاك تحترم الأنام

وبني العماليق الذين لهم بها كان السوام

فزعموا أن عمرو بن لحي أخرج ذلك الجرهمي من مكة, فنزل بأطم من أعراض مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو الشام فقال الجرهمي وقد تشوق إلى مكة:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة وأهلي1 معًا بالمأزمين حلول

وهل أرين العيس تنفخ في البرا لها بمنى والمأزمين ذميل

منازل كنا أهلها لم تحل بنا أزمان بها فيما أراه تحول

مضى أولونا راضين بشأنهم جميعًا وغالتني بمكة غول

قال: فكان عمرو بن لحي يلي البيت وولده من بعده خمسمائة سنة, حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو, فتزوج إليه قصي ابنته حبى بنة حليل, وكانوا هم حجابه وخزانه والقوام به وولاة الحكم بمكة, وهو عامر لم يخرب فيه خراب ولم تبن خزاعة فيه شيئًا بعد جرهم ولم تسرق منه شيئًا علمناه ولا سمعنا به, وترافدوا على تعظيمه والذب عنه, وقال في ذلك عمرو بن الحارث بن عمرو الغبشاني:

نحن وليناه فلم نغشه وابن مضاض قائم يهشه

يأخذ ما يهدى له يفشه نترك مال اللّه ما نمشه

حدثني محمد بن يحيى, قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران قال: خرج أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي قبيل الإسلام في نفر من قريش يريدون

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "وأهل".

 

 

ج / 1 ص -73- اليمن, فأصابهم عطش شديد ببعض الطريق وأمسوا على غير الطريق فساروا جميعًا, فقال لهم أبو سلمة: إني أرى ناقتي تنازعني شقا أفلا أرسلها وأتبعها؟ قالوا: فافعل, فأرسل ناقته وتبعها فأصبحوا على ماء وحاضر فاستقوا وسقوا, فإنهم لعلى ذلك إذ أقبل إليهم رجل فقال: من القوم؟ فقالوا: من قريش قال: فرجع إلى شجرة فقام أمام الماء فتكلم عندها بشيء ثم رجع إلينا فقال: لينطلقن أحدكم معي إلى رجل يدعوه. قال أبو سلمة: فانطلقت معه فوقف بي تحت شجرة فإذا وكر معلق قال: فصوَّت به يا أبه يا أبه, قال: فزعزع شيخ رأسه فأجابه، قال: هذا الرجل قال لي: من الرجل؟ قلت: من قريش قال: من أيها؟ قلت: من بني مخزوم بن يقظة قال: أيهم؟ قلت: أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة قال: أيهات منك أنا ويقظة سن, أتدري من يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأزالنا صروف الدهر والجدود العواثر؟

قلت: لا قال: أنا قائلها, أنا عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي, أتدري لم سمي أجياد أجيادًا؟ قلت: لا قال: جادت بالدماء يوم التقينا نحن وقطورا, أتدري لم سمي قعيقعان "قعيقعان"1؟ قلت: لا قال: لتقعقع السلاح في ظهورنا لما طلعنا عليهم منه.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 من ب.

 

 

ج / 1 ص -74- باب ما جاء في ولاية قصي بن كلاب البيت الحرام, وأمر مكة بعد خزاعة, وما ذكر من ذلك:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن ابن جريج وعن ابن إسحاق -يزيد أحدهما على صاحبه- قالا: أقامت خزاعة على ما كانت عليه من ولاية البيت والحكم بمكة ثلاثمائة سنة, وكان بعض التبابعة قد سار إليه وأراد هدمه وتخريبه, فقامت دونه خزاعة فقاتلت عليه أشد القتال حتى رجع ثم آخر فكذلك, وأما التبع الثالث الذي نحر له وكساه وجعل له غلقًا وأقام عنده أيامًا ينحر كل يوم مائة بدنة, لا يرزأ هو ولا أحد من أهل عسكره شيئًا منها يردها الناس في الفجاج والشعاب, فيأخذون منها حاجتهم ثم تقع عليها الطير فتأكل, ثم تنتابها السباع إذا أمست لا يرد عنها إنسان ولا طير ولا سبع ثم رجع إلى اليمن, إنما كان في عهد قريش.

فلبثت خزاعة على ما هي عليه وقريش إذ ذاك في بني كنانة متفرقة, وقد قدم في بعض الزمان حاج قضاعة فيهم ربيعة بن حرام بن ضبة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد بن زيد, وقد هلك كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وترك زهرة وقصيا ابني كلاب مع أمهما فاطمة بنت عمرو بن سعد بن سيل، وسعد بن سيل الذي يقول فيه الشاعر وكان أشجع أهل زمانه:

لا أرى في الناس شخصًا واحدًا فاعلموا ذاك كسعد بن سيل

فارس أضبط فيه عسرة فإذا ما عاين القرن نزل

فارس يستدرج الخيل كما يدرج الحر القطامي الحجل

وزهرة أكبرهما, فتزوج ربيعة بن حرام أمهما وزهرة رجل بالغ وقصي فطيم أو في سن الفطيم, فاحتملها ربيعة إلى بلادهم من أرض عذرة من

 

 

ج / 1 ص -75- أشراف الشام, فاحتملت معها قصيا لصغره وتخلف زهرة في قومه, فولدت فاطمة بنة عمرو بن سعد لربيعة: رزاح بن ربيعة, فكان أخا قصي بن كلاب لأمه, ولربيعة بن حرام من امرأة أخرى ثلاثة نفر: حن، ومحمود، وجلهمة بنو ربيعة.

فبينا قصي بن كلاب في أرض قضاعة لا ينتمي إلا إلى ربيعة بن حرام, إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء وقصي قد بلغ فقال له القضاعي: ألا تلحق بنسبك وقومك فإنك لست منا؟ فرجع قصي إلى أمه وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي, فسألها عما قال له فقالت: والله أنت يا بني خير منه وأكرم, أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة, وقومك عند البيت الحرام وما حوله.

فأجمع قصي للخروج إلى قومه واللحاق بهم, وكره الغربة في أرض قضاعة, فقالت له أمه: يا بني لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام فتخرج في حاج العرب, فإني أخشى عليك.

فأقام قصي حتى دخل الشهر الحرام, وخرج في حاج قضاعة حتى قدم مكة, فلما فرغ من الحج أقام بها, وكان قصي رجلًا جليدًا حازمًا بارعًا, فخطب إلى حليل بن حبشية بن سلول الخزاعي ابنته حبى بنة حليل, فعرف حليل النسب ورغب في الرجل فزوجه, وحليل يومئذ يلي الكعبة وأمر مكة.

فأقام قصي معه حتى ولدت حبى لقصي عبد الدار وهو أكبر ولده، وعبد مناف, وعبد العزى، وعبدًا بني قصي.

فكان حليل يفتح البيت, فإذا اعتل أعطى ابنته حبى المفتاح ففتحته, فإذا اعتلت أعطت المفتاح زوجها قصيا أو بعض ولدها فيفتحه.

وكان قصي يعمل في حيازته إليه وقطع ذكر خزاعة عنه، فلما حضرت حليلا الوفاة نظر إلى قصي، وإلى ما انتشر له من الولد من ابنته, فرأى أن

 

 

ج / 1 ص -76- يجعلها في ولد ابنته, فدعا قصيا فجعل له ولاية البيت وأسلم إليه المفتاح, وكان يكون عند حبى، فلما هلك حليل أبت خزاعة أن تدعه وذاك, وأخذوا المفتاح من حبى فمشى قصي إلى رجال من قومه من قريش وبني كنانة ودعاهم إلى أن يقوموا معه في ذلك, وأن ينصروه ويعضدوه, فأجابوه إلى نصره.

وأرسل قصي إلى أخيه لأمه رزاح بن ربيعة وهو ببلاد قومه من قضاعة يدعوه إلى نصره, ويعلمه ما حالت خزاعة بينه وبين ولاية البيت, ويسأله الخروج إليه بمن أجابه من قومه, فقام رزاح في قومه فأجابوه إلى ذلك, فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته من أبيه: حن ومحمود وجلهمة بنو ربيعة بن حرام فيمن تبعهم من قضاعة في حاج العرب, مجتمعين لنصر قصي والقيام معه.

فلما اجتمع الناس بمكة خرجوا إلى الحج فوقفوا بعرفة وبجمع, ونزلوا منى وقصي مجمع على ما أجمع عليه من قتالهم بمن معه من قريش، وبني كنانة، ومن قدم عليه مع أخيه رزاح من قضاعة, فلما كان آخر أيام منى أرسلت قضاعة إلى خزاعة يسألونهم أن يسلموا إلى قصي ما جعل له حليل, وعظموا عليهم القتال في الحرم وحذروهم الظلم والبغي بمكة وذكروهم ما كانت فيه جرهم وما صارت إليه حين ألحدوا فيه بالظلم والبغي, فأبت خزاعة أن تسلم ذلك, فاقتتلوا بمفضى مأزمي منى قال: فسمي ذلك المكان المفجر لما فجر فيه وسفك فيه من الدماء وانتهك من حرمته, فاقتتلوا قتالًا شديدًا حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعًا, وفشت فيهم الجراحات, وحاج العرب جميعًا من مضر واليمن مستكفون ينظرون إلى قتالهم.

ثم تداعوا إلى الصلح ودخلت قبائل العرب بينهم, وعظموا على الفريقين سفك الدماء والفجور في الحرم, فاصطلحوا على أن يحكِّموا بينهم رجلًا من العرب فيما اختلفوا فيه, فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن

 

 

ج / 1 ص -77- الليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة, وكان رجلًا شريفًا, فقال لهم: موعدكم فناء الكعبة غدًا فاجتمع إليه الناس وعدوا القتلى فكانت في خزاعة أكثر منها في قريش وقضاعة وكنانة, وليس كل بني كنانة قاتل مع قصي, إنما كانت مع قريش من بني كنانة قلال يسير1، واعتزلت عنها بكر بن عبد مناة قاطبة.

فلما اجتمع الناس بفناء الكعبة قام يعمر بن عوف فقال: ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدمي هاتين, فلا تباعة لأحد على أحد في دم, وإني قد حكمت لقصي بحجابة الكعبة وولاية أمر مكة دون خزاعة لما جعل له حليل, وأن يخلى بينه وبين ذلك, وأن لا تخرج خزاعة عن مساكنها من مكة؛ قال: فسمي يعمر من ذلك اليوم الشداخ.

فسلمت ذلك خزاعة لقصي وعظموا سفك الدماء في الحرم, وافترق الناس فولي قصي بن كلاب حجابة الكعبة وأمر مكة وجمع قومه من قريش من منازلهم وإلى مكة يستعز بهم, وتملك على قومه فملكوه، وخزاعة مقيمة بمكة على رباعهم وسكناتهم لم يحركوا ولم يخرجوا منها, فلم يزالوا على ذلك حتى الآن.

وقال قصي في ذلك, وهو يتشكر لأخيه رزاح بن ربيعة2:

أنا ابن العاصمين بني لؤي بمكة مولدي وبها ربيت

ولي البطحاء قد علمت معد ومروتها رضيت بها رضيت

وفيها وفيها كانت الآباء قبلي فما شويت أخي ولا شويت

فلست لغالب أن لم تأثل بها أولاد قيدر والنبيت

رزاح ناصري وبه أسامي فلست أخاف ضيمًا ما حييت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في الأصل، أ. وفي ب: "قبائل يسيرة".

2 الروض الأنف 1/ 237، شفاء الغرام 2/ 110.

 

 

ج / 1 ص -78- فكان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكًا، وأطاع له به قومه, فكانت إليه الحجابة والرفادة والسقاية والندوة واللواء والقيادة, فلما جمع قصي قريشًا بمكة سمي مجمعًا, وفي ذلك يقول حذافة بن غانم الجمحي يمدحه1:

أبوهم قصي كان يدعى مجمعًا به جمع اللّه القبائل من فهر

هم نزلوها والمياه قليلة وليس بها إلا كهول بني عمرو

يعني: خزاعة. قال إسحاق بن أحمد: وزادني أبو جعفر محمد بن الوليد بن كعب الخزاعي2:

أقمنا بها والناس فيها قلائل وليس بها إلا كهول بني عمرو

هم ملكوا3 البطحاء مجدًا وسؤددا وهم طردوا عنها غواة بني بكر

وهم حفروها والمياه قليلة ولم يستقى إلا بنكد من الحفر

حليل الذي عادى كنانة كلها ورابط بيت اللّه في العسر واليسر

أحازم إما أهلكن فلا تزل لهم شاكرا حتى توسد في القبر

ويقال: من أجل تجمع قريش إلى قصي سميت قريش قريشًا، قال أبو الوليد: وأنشدني عبد العزيز بن إسماعيل الحلبي في التقرش, وهو الاجتماع4:

أيجدي كثحنا للطعان إذا اقترش القنا وتقعقع الحجف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 شفاء الغرام 2/ 110.

2 شفاء الغرام 2/ 110.

3 كذا في الأصل أ, ومثله في شفاء الغرام 2/ 110. وفي ب "ملئوا" ومثله في الروض الأنف 1/ 234.

4 كذا في الأصل ب, وفي أ: "الإجماع".

 

 

ج / 1 ص -79- ولبعضهم:

قوارش بالرماح كان فيها شواطن ينتزعن به انتزاعا

والتجمع: التقرش في بعض كلام العرب, ويقال: كان يقال لقصي: القرشي ولم يسم قرشي قبله. ويقال أيضًا: إن النضر بن كنانة كان يسمى القرشي. وقد قيل أيضًا: إنما سميت قريش قريشًا أنها كانت تجارًا تكتسب وتتجر وتحترش, فشبهت بحوت في البحر.

حدثني أبو الحسن الوليد بن أبان الرازي, عن علي بن جعفر بن محمد, عن أبيه قال: قيل لابن عباس: لم سميت قريش قريشًا؟ قال: بأمر بين مشهور بدابة في البحر تسمى قريش, والدليل على ذلك قول تبع حين يقول:

وقريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث والسمين ولا تترك فيه لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد حتى قريش يأكلون البلاد أكلا كشيشا

ولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموشا

ثم رجع إلى حديث ابن جريج ومحمد بن إسحاق قال: فحاز قصي شرف مكة وأنشأ دار الندوة, وفيها كانت قريش تقضي أمورها, ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلا ابن أربعين سنة للمشورة, وكان يدخلها ولد قصي كلهم أجمعون وحلفاؤهم, فلما كبر قصي ورق كان عبد الدار بكره وأكبر ولده وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وذهب شرفه كل مذهب, وعبد الدار وعبد العزى وعبد بنو قصي بها لم يبلغوا ولا أحد من قومهم من قريش ما بلغ عبد مناف من الذكر والشرف والعز.

وكان قصي وحبى بنة حليل يحبان عبد الدار, ويرقان عليه لما يريان عليه من

 

 

ج / 1 ص -80- شرف عبد مناف وهو أصغر منه فقالت له حبى: لا والله لا أرضى حتى تخص عبد الدار بشيء تلحقه بأخيه, فقال قصي: والله لألحقنه به ولأحبونه بذروة الشرف حتى لا يدخل أحد من قريش ولا غيرها الكعبة إلا بإذنه ولا يقضون أمرًا ولا يعقدون لواء إلا عنده, وكان ينظر في العواقب.

فأجمع قصي على أن يقسم أمور مكة الستة التي فيها الذكر، والشرف، والعز بين ابنيه؛ فأعطى عبد الدار السدانة وهي الحجابة, ودار الندوة، واللواء، وأعطى عبد مناف السقاية، والرفادة، والقيادة.

فأما السقاية فحياض من أدم كانت على عهد قصي توضع بفناء الكعبة, ويسقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل, ويسقاه الحاج.

وأما الرفادة فخرج كانت قريش تخرجه من أموالها في كل موسم, فتدفعه إلى قصي يصنع به طعامًا للحاج, يأكله من لم يكن معه سعة ولا زاد.

فلما هلك قصي أقيم أمره في قومه بعد وفاته على ما كان عليه في حياته, وولي عبد الدار حجابة البيت، وولاية دار الندوة، واللواء فلم يزل يليه حتى هلك, وجعل عبد الدار الحجابة بعده إلى ابنه عثمان بن عبد الدار، وجعل دار الندوة إلى ابنه عبد مناف بن عبد الدار.

فلم يزل بنو عبد مناف بن عبد الدار يلون الندوة دون ولد عبد الدار, فكانت قريش إذا أرادت أن تشاور في أمر فتحها لهم عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار أو بعض ولده أو ولد أخيه، وكانت الجارية إذا حاضت أدخلت دار الندوة ثم شق عليها بعض ولد عبد مناف بن عبد الدار درعها ثم درَّعها إياه, وانقلب بها أهلها فحجبوها, وكان عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار يسمى محيضًا، وإنما سميت دار الندوة لاجتماع النداة فيها يندونها, يجلسون فيها لإبرام أمرهم وتشاورهم.

ولم يزل بنو عثمان بن عبد الدار يلون الحجابة دون ولد عبد الدار ثم

 

 

ج / 1 ص -81- وليها عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها أبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها ولده من بعده حتى كان فتح مكة فقبضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أيديهم وفتح الكعبة ودخلها, ثم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكعبة مشتملًا على المفتاح فقال له العباس بن عبد المطلب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, أعطنا الحجابة مع السقاية, فأنزل الله -عز وجل- على نبيه -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: فما سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل تلك الساعة, فتلاها ثم دعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح وقال: "غيبوه" ثم قال: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه، واعملوا فيها بالمعروف خالدة تالدة, لا ينزعها من أيديكم إلا ظالم".

فخرج عثمان بن طلحة إلى هجرته مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقام ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة فلم يزل يحجب هو وولده وولد أخيه وهب بن عثمان, حتى قدم ولد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة وولد مسافع بن طلحة بن أبي طلحة من المدينة, وكانوا بها دهرًا طويلًا, فلما قدموا حجبوا مع بني عمهم, فولد أبي طلحة جميعًا يحجبون.

وأما اللواء فكان في أيدي بني عبد الدار كلهم, يليه منهم ذوو السن والشرف في الجاهلية, حتى كان يوم أحد فقُتل عليه من قُتل منهم.

وأما السقاية، والرفادة، والقيادة فلم تزل لعبد مناف بن قصي يقوم بها حتى توفي, فولي بعده هاشم بن عبد مناف السقاية والرفادة, وولي عبد شمس بن عبد مناف القيادة, وكان هاشم بن عبد مناف يطعم الناس في كل موسم بما يجتمع عنده من ترافد قريش, كان يشتري بما يجتمع عنده دقيقًا ويأخذ من كل ذبيحة من بدنة أو بقرة أو شاة فخذها فيجمع ذلك كله ثم يحرز به الدقيق ويطعمه الحاج, فلم يزل على ذلك من أمره حتى أصاب الناس في سنة جدب شديد, فخرج هاشم بن عبد مناف إلى الشام فاشترى بما اجتمع عنده

 

 

ج / 1 ص -82- من ماله دقيقًا وكعكًا, فقدم به مكة في الموسم فهشم ذلك الكعك ونحر الجزور1 وطبخه وجعله ثريدًا, وأطعم الناس وكانوا في مجاعة شديدة حتى أشبعهم, فسمي بذلك هاشمًا وكان اسمه عمرا, ففي ذلك يقول ابن الزبعرى السهمي2:

كانت قريش بيضة فتفلقت فالمح3 خالصها لعبد مناف

الرايشين وليس يوجد رايش والقائلين هلم للأضياف

والخالطين غنيهم بفقيرهم حتى يعود فقيرهم كالكاف

والضاربين الكيس تبرق بيضه والمانعين البيض بالأسياف

عمرو العلا هشم الثريد لمعشر كانوا بمكة مسنتين عجاف

يعني بعمرو العلا: هاشمًا. فلم يزل هاشم على ذلك حتى توفي, وكان عبد المطلب يفعل ذلك فلما توفي عبد المطلب, قام بذلك أبو طالب في كل موسم حتى جاء الإسلام وهو على ذلك، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل بمال يعمل به الطعام مع أبي بكر -رضي الله عنه- حين حج أبو بكر بالناس سنة تسع, ثم عمل في حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع, ثم أقام أبو بكر في خلافته ثم عمر -رضي الله عنه- في خلافته, ثم الخلفاء هلم جرا حتى الآن4.

وهو طعام الموسم الذي تطعمه الخلفاء اليوم في أيام الحج بمكة وبمنى, حتى تنقضي أيام الموسم.

وأما السقاية فلم تزل بيد عبد مناف, فكان يسقي الماء من بئر رم، وبئر

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في الأصل ب, ومثله في شفاء الغرام 2/ 111. وفي أ: "الجزر" والجزور: ما يصلح لأن يذبح من الإبل, وجمعه: جزر.

2 شفاء الغرام 2/ 141.

3 المح: خالص كل شيء, وما في جوف البيضة من صفرة، أو من صفرة وبياض.

4 شفاء الغرام 2/ 141.

 

 

ج / 1 ص -83- خم1 على الإبل في المزاد والقرب, ثم يسكب ذلك الماء في حياض من أدم بفناء الكعبة, فيرده الحاج حتى يتفرقوا. فكان يستعذب ذلك الماء, وقد كان قصي حفر بمكة آبارًا وكان الماء بمكة عزيزًا إنما يشرب الناس من آبار خارجة من الحرم, فأول ما حفر قصي بمكة حفر بئرًا يقال لها: العجول, كان موضعها في دار أم هانئ بنت أبي طالب بالحزورة, وكانت العرب إذا قدمت مكة يردونها فيسقون منها ويتراجزون عليها, قال قائل فيها2:

أروى من العجول ثمت انطلق إن قصيا قد وفى وقد صدق

بالشبع للحي وري المغتبق

وحفر قصي أيضًا بئرًا عند الردم الأعلى عند دار أبان بن عثمان التي كانت لآل جحش بن رئاب ثم دثرت, فنثلها جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وأحياها, ثم حفر هاشم بن عبد مناف بذّر, وقال حين حفرها: لأجعلنها للناس بلاغًا وهي البئر التي في حق المقوم بن عبد المطلب في ظهر دار الطلوب مولاة زبيدة بالبطحاء, في أصل المستنذر وهي التي يقول فيها بعض ولد هاشم:

نحن حفرنا بذر بجانب المستنذر

 

 

نسقي الحجيج الأكبر3

وحفر هاشم أيضًا سجلة4 وهي البئر التي يقال لها: بئر جبير بن مطعم, دخلت في دار القوارير, فكانت سجلة لهاشم بن عبد مناف, فلم تزل لولده حتى وهبها أسد بن هاشم للمطعم بن عدي حين حفر عبد المطلب

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في شفاء الغرام 2/ 141. وفي الأصول: "بئر كرادم وبئر خمّ" ورم: بئر في ضواحي مكة، وكذلك خم: بئران حفرهما عبد شمس بن عبد مناف "ياقوت".

2 شفاء الغرام 2/ 142.

3 شفاء الغرام 2/ 142.

4 سجلة: كانت برباط السدرة, كما ذكر الفاسي.

 

 

ج / 1 ص -84- زمزم واستغنوا عنها، ويقال: وهبها له عبد المطلب حين حفر عبد المطلب زمزم واستغنى عنها وسأله المطعم بن عدي أن يضع حوضًا من أدم إلى جانب زمزم يسقى فيه من ماء بئره, فأذن له في ذلك وكان يفعل، فلم يزل هاشم بن عبد مناف يسقي الحاج حتى توفي, فقام بأمر السقاية بعده عبد المطلب بن هاشم فلم يزل كذلك حتى حفر زمزم فعفت على آبار مكة كلها، وكان منها مشرب الحاج، قال: وكانت لعبد المطلب إبل كثيرة, فإذا كان الموسم جمعها ثم يسقي لبنها بالعسل في حوض من أدم عند زمزم, ويشتري الزبيب فينبذه بماء زمزم ويسقيه الحاج لأن1 يكسر غلظ ماء زمزم, وكانت إذ ذاك غليظة جدا، وكان الناس إذ ذاك لهم في بيوتهم أسقية يسقون فيها الماء من هذه البئار, ثم ينبذون فيها القبضات من الزبيب والتمر لأن يكسر عنهم غلظ ماء آبار مكة, وكان الماء العذب بمكة عزيزًا لا يوجد إلا لإنسان يستعذب له من بئر ميمون وخارج من مكة، فلبث عبد المطلب يسقي الناس حتى توفي2.

فقام بأمر السقاية بعده العباس بن عبد المطلب فلم تزل في يده, وكان للعباس كرم بالطائف وكان يحمل زبيبه إليها, وكان يداين أهل الطائف ويقتضي منهم الزبيب فينبذ ذلك كله ويسقيه الحاج أيام الموسم حتى ينقضي في الجاهلية وصدر الإسلام حتى دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة يوم الفتح, فقبض السقاية من العباس بن عبد المطلب والحجابة من عثمان بن طلحة.

فقام العباس بن عبد المطلب فبسط يده وقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمع لنا الحجابة والسقاية, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أعطيكم ما ترزءون فيه ولا ترزءون منه". فقام بين عضادتي باب الكعبة فقال: "ألا إن كل دم أو مال أو مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين إلا سقاية الحاج وسدانة

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 لدى الفاسي 2/ 143: "لأنه".

2 شفاء الغرام 2/ 143.

 

 

ج / 1 ص -85- الكعبة, فإني قد أمضيتهما لأهلهما على ما كانتا عليه في الجاهلية" فقبضها العباس فكانت في يده حتى توفي, فوليها بعده عبد الله بن العباس -رضي الله عنه- فكان يفعل فيها كفعله دون بني عبد المطلب.

وكان محمد بن الحنفية قد كلم فيها ابن عباس فقال له ابن عباس: ما لك ولها؟ نحن أولى بها منك في الجاهلية والإسلام، قد كان أبوك تكلم فيها فأقمت البينة [وشهد لي] طلحة بن عبيد الله، وعامر بن ربيعة، وأزهر بن عبد عوف، ومخرمة بن نوفل أن العباس بن عبد المطلب كان يليها في الجاهلية بعد عبد المطلب وجدك أبا طالب في إبله في باديته بعرنة, وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها العباس يوم الفتح دون بني عبد المطلب, فعرف ذلك من حضر1.

فكانت بيد عبد الله بن عباس بعد أبيه ولا ينازعه فيها منازع، ولا يتكلم فيها متكلم حتى توفي فكانت بيد علي بن عبد الله بن عباس يفعل فيها كفعل أبيه وجده, يأتيه الزبيب من ماله بالطائف وينبده حتى توفي, وكانت بيد ولده حتى الآن2.

وأما القيادة فوليها من بني عبد مناف، عبد شمس بن عبد مناف, ثم وليها من بعده أمية بن عبد شمس، ثم من بعده حرب بن أمية, فقاد بالناس يوم عكاظ في حرب قريش وقيس عيلان، وفي الفجارين: الفجار الأول والفجار الثاني, وقاد الناس قبل ذلك بذات نكيف في حرب قريش وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة, والأحابيش يومئذ مع بني بكر تحالفوا3 على جبل يقال له: الحبشي على قريش فسموا الأحابيش بذلك4.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 شفاء الغرام 2/ 144, وما بين حاصرتين منه.

2 شفاء الغرام 2/ 144.

3 كذا في الأصل ب, ومثله في شفاء الغرام. وفي أ: "يحالفوا".

4 شفاء الغرام 2/ 144.

 

 

ج / 1 ص -86- ثم كان أبو سفيان بن حرب يقود قريشًا بعد أبيه حتى كان يوم بدر فقاد الناس عتبة بن ربيعة بن عبد شمس, وكان أبو سفيان بن حرب في العير يقود الناس, فلما أن كان يوم أحد قاد الناس أبو سفيان بن حرب وقاد الناس يوم الأحزاب, وكانت آخر وقعة لقريش وحرب, حتى جاء الله بالإسلام وفتح مكة1.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 شفاء الغرام 2/ 144.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

ما جاء في انتشار ولد إسماعيل, وعبادتهم الحجارة, وتغيير الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق أن بني إسماعيل وجرهم من ساكني مكة ضاقت عليهم مكة فتفسحوا في البلاد والتمسوا المعاش, فيزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم إلا احتملوا معهم1 من حجارة الحرم تعظيمًا للحرم وصبابة بمكة وبالكعبة حيثما حلوا وضعوه فطافوا به كالطواف بالكعبة, حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم من حجارة الحرم خاصة، حتى خلفت الخلوف بعد الخلوف ونسوا ما كانوا عليه,واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم من الضلالات وانتحوا2 ما كان يعبد قوم نوح منها على إرث ما كان بقي فيهم من ذكرها وفيهم على ذلك بقايا من عهد

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في الأصل أ، ومثله في شفاء الغرام. وفي ب: "إلا احتمل معه".

2 كذا في الأصل, وتحت حاء الكلمة علامة الإهمال للتأكيد, ومثله في أ، وشفاء الغرام. وفي ب: "انتجسوا".

 

 

ج / 1 ص -87- إبراهيم وإسماعيل يتمسكون1 بها من تعظيم البيت والطواف به, والحج والعمرة, والوقوف على عرفة ومزدلفة, وهدي البدن، والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه2.

وكان أول من غير دين إبراهيم وإسماعيل ونصب الأوثان وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحام: عمرو بن لحي3.

حدثنا جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن جريج قال: قال عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه -يعني: أمعاءه- في النار, على رأسه فروة" فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من في النار؟" قال: من بيني وبينك من الأمم". وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هو أول من جعل البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, ونصب الأوثان حول الكعبة، وغير الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام".

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 كذا في الأصل أ, ومثله في شفاء الغرام. وفي ب: "يتنسكون".

2 شفاء الغرام 2/ 35, 36.

3 شفاء الغرام 2/ 36.

باب ما جاء في أول من نصب الأصنام في الكعبة, والاستقسام بالأزلام:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي أحمد بن محمد قال: حدثنا سعيد بن سالم القداح, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: إن البئر التي كانت في جوف الكعبة، كانت على يمين من دخلها وكان عمقها ثلاثة أذرع, يقال: إن إبراهيم وإسماعيل حفراها ليكون فيها ما يهدى للكعبة, فلم تزل كذلك حتى كان عمرو بن لحي فقدم بصنم

 

 

ج / 1 ص -88- يقال له: هبل من هيت من أرض الجزيرة، وكان هبل من أعظم أصنام قريش عندها, فنصبه على البئر في بطن الكعبة وأمر الناس بعبادته, فكان الرجل إذا قدم من سفر بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت وحلق رأسه عنده، وهبل الذي يقول له أبو سفيان يوم أحد: اعل هبل أي: أظهر دينك, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "الله أعلى وأجل". وكان اسم البئر التي في بطن الكعبة الأخسف, وكانت العرب تسميها الأخشف.

قال محمد بن إسحاق: كان عند هبل في الكعبة سبعة قداح, كل قدح منها فيه كتاب؛ قدح فيه العقل إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة عليهم, فعلى من خرج حمله وقدح فيه نعم للأمر إذا أرادوه يضرب به في القداح, فإن خرج قدح فيه نعم عملوا به، وقدح فيه لا فإذا أرادوا الأمر ضربوا به في القداح فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه منكم وقدح فيه ملصق وقدح فيه من غيركم وقدح فيه المياه, فإذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح, فحيثما خرج عملوا به1.

وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا أو2 ينكحوا منكحًا أو يدفنوا ميتًا أو شكوا في نسب أحد, ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها, ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا, هذا فلان أردنا به كذا وكذا, فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب, فإن خرج عليه منكم كان منهم وسطًا3, وإن خرج عليه من غيركم كان حليفًا, وإن خرج عليه ملصق كان ملصقًا على منزلته فيهم لا نسب له ولا حلف, وإن خرج عليه شيء مما سوى هذا مما

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ابن هشام 1/ 152.

2 كذا في الأصل ب. وفي أ: "أن".